رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر 17 فبراير، 2019 0 تعليق

الأركان الثلاثة لعبودية القلب (3)

ذكرنا في المقال الأول أن أركان التعبد القلبية ثلاثة هي: المحبة، والرجاء، والخوف، محبة الله -جل وعلا-، ورجاء رحمته، وخوف عذابه؛ فهذه الأركان الثلاثة العظيمة، هي أركان للتعبد لابد من وجودها في قلب المسلم، ووجودها في قلبه فرضٌ لازم،  وقلنا إن هذه الأركان قد اجتمعت في قوله -سبحانه وتعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } (الإسراء:57).

الأمور التي تجلب حب الله

     وفيما يتعلق بالأمور التي تجلب حب الله إلى قلب المؤمن، تحدَّث ابن القيم -رحمه الله- عن هذا الموضوع حديثاً وافياً ونافعاً جداً في كتابه (مدارج السالكين)؛ فذكر أن الأسباب الجالبة للمحبة عشرة – هذه تجلب لقلب المسلم محبة الله – قال باختصار:  قراءة القرآن بتدبر، التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وفي الحديث: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّه».

مداومة الذكر

دوام ذكره على كل حال، يحرك الإنسان دائماً لسانه، وينبض قلبه بذكر الله -جل وعلا-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} النتيجة: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (الأحزاب:41-43).

إيثار محابه

     إيثار محابه على محابك، إذا نازعتك نفسك بين أمرين: أمر يحبه الله، وأمر يخالف ذلك تحبه نفسك، قدِّم محبة الله على محبة نفسك، وهذا محك امتحان {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران:31)، ويسميها أهل العلم (آية المحنة)، أي من ادَّعى محبة الله؛ فليمتحن نفسه في ضوء هذه الآية، هل هو متبع للنبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟. مطالعة القلب لأسمائه وصفاته،عندما تتدبر في أسماء الله الحسنى وصفاته العظيمة، هذه تحرك في قلبك محبة الله -سبحانه وتعالى.

مشاهدة برِّه وإحسانه وآلائه، تفكَّر في نعم الله، ومننه، وآلائه، وأفضاله؛ فهذا يحرك في القلب المحبة، ويجلب للقلب المحبة .

انكسار القلب بكليَّته بين يدي الله، أن يكون العبد منكسراً بين يدي الله متذللاً خاضعاً لجنابه -سبحانه وتعالى.

التفكير في نعمه سبحانه

     الخلوة به وقت النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل «إِذَا مَضَى نِصْفُ اللَّيْلِ، أَوْ ثُلُثُ اللَّيْلِ يَنْزِلُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَل-َّ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا؛ فَيَقُولُ لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي أَحَدًا غَيْرِي، مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي أَغْفِرُ لَهُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ».

مجالسة الصادقين

     مجالسة المحبين الصادقين، ينظر في الصلحاء أهل الفضل أهل الخير يجالسهم، وكما قيل : «الصاحب ساحب»، ويقول صلى الله عليه وسلم : «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِه؛ِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ»، وهذا يحتاج من الإنسان إلى صبر، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } (الكهف:28). أما الذي يجالس أهل الشر، وأهل الفساد، ويجالس القنوات الفاسدة، والمواقع الفاسدة، ويُمضي الأوقات الطويلة فيها، ثم يريد أن يتحرك في قلبه محبة الله، ويتحرك في قلبه الخير والفضائل؛ فهذا في الحقيقة ألقى بنفسه إلى التهلكة، وورَّط نفسه، وجنى على نفسه، {يا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} (الحشر:18).

الابتعاد عن العوائق

     مباعدة كل سبب يحُول بين القلب وبين الله - وهذا المعنى أشرنا إليه - وفي عصرنا هذا القنوات الفضائية، والمواقع الفاسدة في الإنترنت، وغيرها هذه من أعظم ما يُبعد الإنسان، ويُبعد قلبه عن الله -سبحانه وتعالى- فرقٌ بين أن تمسك بالمصحف، وتقرأ، وتتأمل، وتتدبر، وتدمِن النظر في كتاب الله -سبحانه وتعالى-؛ فيمتلئ قلبك إيماناً، ومحبة، وتعظيماً، وخيراً، وبِراً، وبين أن يجلس الإنسان مشدوه البصر، مستولىً على قلبه أمام تلك القنوات الفاسدة، والمواقع الباطلة إلى أن يمرض قلبه ويهلك -عياذاً بالله- من ذلك .

فإذاً هذه تحرِّك في قلب الإنسان المحبة.

تحريك الرجاء في القلب

إذا جئنا إلى جانب تحريك الرجاء في القلب؛ فتجد أيضًا هذا باب واسع في القرآن الكريم، وكل آيات الترغيب والوعد والثواب تحرك في القلب الرجاء.

تحريك جانب الخوف

     كل آيات التهديد والعقوبة والنار، وسخط الله، وعقوبته، وما أحلَّه الله -سبحانه وتعالى- بالأمم السابقة وغير ذلك؛ هذا يحرِّك في القلب الخوف؛ فيخاف من الله -سبحانه وتعالى-؛ فتزين حاله، ويصلح أمره، ويحسُن إقباله، على الله -تبارك وتعالى- ويكون في درجة المؤمنين المتقين الأبرار، وقد قال الله -جل وعلا- عن المؤمنين الكُمَّل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (المؤمنون:60-61)، لاحظ الارتباط {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ }!! من ماذا وجلة؟ عائشة رضي الله عنها - كما في  المسند وغيره – قالت سألت النبي صلى الله عليه وسلم : «أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ ؟ قَالَ: لَا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ أَوْ لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يَخَافُ أَلَا يُقْبَلَ مِنْهُ»، هذا حال المؤمنين الكمَّل، أما الإنسان الضائع تجده مفرطا في العبادات، ومفرطا في الأعمال، ومنهمكا في المعاصي وفي الوقت نفسه آمِن من عقوبة الله، الحسن البصري -رحمه الله تعالى- يقول: «إن المؤمن جمَع بين إحسان ومخافة، والمنافق جمع بين إساءة وأمْن» أعماله سيئة وآمِن، ويتمنى على الله الأماني!! والله يقول: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه} (النساء:123)، ليست المسألة مجرد أماني؛ ولهذا العلماء فرَّقوا بين التمني والرجاء.

الفرق بين التمني والرجاء

     وهذا أشار إليه ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين، فرَّقوا بين التمني والرجاء، التمني حال العاجز المفرِّط، تجده لا يعمل ولا يبذل الأسباب، لكن تجده جالسا معطِّل الأسباب، ويفعل المخالفات، ويقول: أتمنى أن أكون يوم القيامة في الدرجات العالية من الجنة، وأتمنى كذا، هذا التمني {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}، الحسن البصري -رحمه الله- يقول: «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدَّقته الأعمال».

التمني من العجز

إذًا التمني يكون من العاجز؛ فهو لا يعمل ولا يبذل الأسباب وعنده أماني، أتمنى كذا، وأتمنى كذا، وأتمنى كذا، والرجاء فرْقُه عن التمني: أن الرجاء لا يكون إلا بعمل الذي يرجو فعلاً رحمة الله، ويعمل لنيلها، وهذا هو الرجاء حقيقة.

     أن التمني بلا عمل ولا جِدٍّ ولا اجتهاد، أما الرجاء: فهو بعمل الذي يرجو رحمة الله، ويبذل الأسباب لنيلها، الذي يخاف عقوبة الله -تبارك وتعالى- يبذل الأسباب للهرب من نيلها؛ فيفر إلى الله، وكل شيء تخاف منه تفرُّ منه، إلا الله إذا خفته تفرّ إليه -سبحانه وتعالى- {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (الذاريات:50)، إذا صار في قلبك خوف من الله تجد فرارك إلى الله -سبحانه وتعالى-، وكل شيء تخاف منه تفرُّ منه إلا الله، إذا وُجد في قلبك خوف منه، فررت إليه، وتركت ما يسخطه، وابتعدت عما يغضبه، وطلبت ثوابه -سبحانه وتعالى.

الأركان الثلاثة للتعبد

     كلام في أركان التعبد له كلام لابن القيم -رحمه الله- في (مدارج السالكين) في منزلة الحب، ومنزلة الرجاء، ومنزلة الخوف - كلامه موسع ووافٍ - وهناك رسالة أنصح بها تصلح لجميع الطبقات للشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله تعالى-، له منظومة جميلة سمَّاها: (منظومة السير إلى الله والدار الآخرة) جمع فيها المنازل، وذكر الحب وذكر الرجاء،

وذكر الخوف، وشرحها في رسالة صغيرة وهي مطبوعة بعنوان: (شرح المنظومة في السير إلى الله والدار الآخرة)، وكلامه فيها كلامٌ مختصر، لكنه جامع وواف ونافع؛ فأنصح بقراءة هذه الرسالة الطيبة للعلامة ابن سعدي -رحمه الله تعالى.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك