رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر 31 يناير، 2019 0 تعليق

الأركان الثلاثة لعبودية القلب (2)


ذكرنا في المقال السابق أن أركان التعبد القلبية ثلاثة هي: المحبة، والرجاء، والخوف؛ محبة الله -جل وعلا- ورجاء رحمته، وخوف عذابه؛ فهذه الأركان الثلاثة العظيمة، هي أركان للتعبد لابد من وجودها في قلب المسلم، ووجودها في قلبه فرضٌ لازم،  وقلنا إن هذه الأركان قد اجتمعت في قوله -سبحانه وتعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}(الإسراء:57).

 والخوف الذي يُحمد هو الخوف الذي يزجر الإنسان عن المعصية وعن الوقوع فيما يسخط الله -سبحانه وتعالى-، أما إذا زاد الخوف عن حده ربما تحوَّل كما قدّمت إلى نوع من القنوط؛ ولهذا عبادة الله -سبحانه وتعالى- تكون بالحب، والرجاء، والخوف .

لماذا نصلي؟

     فعندما يقال: لماذا نصلي؟ الجواب: لأننا نحب الله، ونرجو رحمته، ونخاف عذابه. لماذا نصوم؟ لأننا نحب الله، ونرجو رحمته، ونخاف عذابه، وهكذا في كل طاعة، وأيضًا ابتعاد الإنسان عن المحرمات وعن الآثام، يكون حبًا لله -سبحانه- ورجاءً لرحمته وخوفًا من عذابه، هذه الأمور هي التي إذا وجدت فعلاً في قلب الإنسان -وبيِّنت كما قدّمت في القرآن بيانًا وافيًا لكننا نحن الذين نفرِّط- صلُحت حاله -بإذن الله تبارك وتعالى-، وكل خلل يوجد في الإنسان، سواءً في تقصيرٍ في طاعات، أم في فعلٍ لمحرمات؛ فهو من نقصٍ في هذه الركائز، أما إذا وُجدت فعلاً هذه الركائز الثلاثة في القلب؛ فالإنسان يصلح تماماً ويزكو وتطيب حاله ويستقيم أمره ويحسن إقباله على الله، بينما إذا اختل شيء من هذه الأركان - أركان التعبد الثلاثة-؛ فباختلالها يختل السير، إما بتفريط في واجبات وفرائض، أو في وقوع في محرمات ومعاصي وآثام .

المفرط في حق الله

     ولهذا إذا بحث المفرِّط في فعل ما فرض الله عليه، أو الواقع فيما حرَّم الله عليه إذا بحث في نفسه وفتش؛ لوجد أن هذا نابع من ضعفٍ في هذه الأمور ونقصٍ فيها،  وإلا لو أنها تحركت في قلبه لامْتَنَع؛ ولهذا من أنفع ما يكون للإنسان عندما تدعوه نفسه إلى تفريطٍ في واجب، أو فعلٍ لمحرم أن يحرِّك هذه الأركان في قلبه، وتحريك هذه الأركان في القلب واضح من خلال النصوص التي في كتاب الله؛ ولهذا القرآن شفاء {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} (الإسراء:82)، لكن كيف يستشفي الإنسان بالقرآن إذا كان لا يستفيد من معاني القرآن ولا يتدبر في دلالاته العظيمة ومعانيه المباركة التي فيها زكاء القلوب وصلاح النفوس واستقامة الأحوال!!.

خطورة حال المقصر

     وأهل العلم -رحمهم الله- نبهوا إلى خطورة حال من يقصُر العبادة على بعض هذه الأركان دون باقيها، وقد وُجد في الأمة طوائف قصَروا العبادة على بعض هذه الأركان فـَضَلـُّوا عن سواء السبيل؛ فوُجد من الطوائف من لا يعبدون الله إلا بالحب فقط، ووُجد منهم من لا يعبد الله إلا بالرجاء فقط، ووُجد من لا يعبد الله إلا بالخوف.

     ولهذا قال بعض أهل العلم المتقدمين: «من عبَد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبَد الله بالرجاء وحده، فهو مرجئ -يعني على طريقة المرجئة -، ومن عبَد الله بالخوف وحده فهو حروري -أي على طريقة الحرورية الخوارج-،  ومن عبَد الله بالحب والخوف والرجاء، فهو مؤمن موحِّد» بالحب، والخوف، والرجاء.

عبادة الأنبياء

     وفي القرآن عبادة الأنبياء والمرسلين قائمة على هذه الأمور الثلاثة: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء:90) بالرغبة والرهبة هذه عبادة الأنبياء، وقال إبراهيم الخليل -عليه السلام-: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}(الشعراء:85)، وفي الحديث قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ: «كَيْفَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ»، قَال:َ أَتَشَهَّدُ وَأَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ، أَمَا إِنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ، وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «حَوْلَهَا نُدَنْدِن»، ثم يأتي هؤلاء الضُّلال ويقولون: «نحن نعبد الله حباً فيه، لا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار»!! .

العقيدة الباطلة

     ولما اعتقدوا هذه العقيدة الباطلة، زرعت في نفوسهم استخفافاً بالجنة، واستخفافاً بالنار، واستخفافاً بالعقوبات، وأصبح يوجد في كتبهم من الألفاظ والكلمات الشنيعة التي ربما لا يسع هذا المقام لذكرها تدل على استخفاف بأمر الجنة، واستهانة بذلك وتهوين من شأنها، وحط من قدرها، زعماً منهم أنهم على أكمل حال - عبادة الله بالحب فقط-؛ ولما كانت هذه حالهم أورثهم هذا الاعتقاد الفاسد شؤماً في العمل؛ ولهذا وجد في هؤلاء من عطَّل الأعمال وانقطع عن العبادات وعن الطاعات زعماً منه أنه بلغ درجة الوصول، وأنه سقطت عنه التكاليف، كل هذه دركات من الباطل يجرُّ بعضها إلى بعض.

مَن لا يعبد الله إلا بالرجاء

     وكذلك مَن لا يعبد الله إلا بالرجاء،  يُعمِل آيات الوعد، ويُهمل آيات الوعيد، يُعمِل أحاديث الوعد، ويهمل أحاديث الوعيد، وهذه تجدها أيضاً بصورة أو بأخرى عند كثير من العصاة والمفرطين؛ لماذا لم تصلي؟! ربي غفور رحيم!! لماذا تفعل كذا من المحرمات ؟! ربك غفور رحيم، وينسى قول الله -تعالى-: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}؛  فلما يعبد الله بالرجاء وحده، يأمن من مكره -سبحانه وتعالى- وتجده يفرط ويتهاون ويقع في أنواع من المعاصي والآثام والمخالفات، مثل طريقة المرجئة القدامى تجده لما يستدل يقول: «مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ!! قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ»، يأتي بهذا الحديث ويُهمل حديث : «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ»، يهمل قوله: {وَلَا يَزْنُونَ} (الفرقان:68)، يهمل {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا}(الإسراء:32)، يهمل الوعيد، يهمل العقوبات، هذه كلها يهملها ويأتي بهذا الحديث يُعمله مع إهمال غيره!! بينما لو أعمله وأعمل غيره -أعمل الوعد وأعمل الوعيد- تتزن الأمور، إذا أعمل الوعد رجا، وإذا أعمل الوعيد خاف، وهذا هو المطلوب: رجاء وخوف، أما الرجاء بلا خوف؛ فهذا يورث أمناً من مكر الله، وأما الخوف بلا رجاء، يورث قنوطاً من رحمة الله -تبارك وتعالى .

طريقة الخوارج الحرورية

ومن عبَد الله بالخوف وحده؛ فهذه على طريقة الخوارج الحرورية، تجده يأتي بنصوص الوعيد، والعقوبات، والتهديد، ويُهمل نصوص الرجاء، ولو أنه ضم إلى نصوص الوعيد نصوص الوعد، لاستبان له الأمر واتضح له الطريق.

     والحق في هذا بأن يجمع المسلم، وأن يجاهد المسلم نفسه على أن يجتمع في قلبه هذه الأمور الثلاثة: الحب، والرجاء، والخوف، يجتهد أولاً أن يملأ قلبه بحب الله -جل وعلا-، وفي الدعاء المأثور عن نبينا -عليه الصلاة والسلام-: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ أَحَبَّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك