الأربعون الوقفية (9)
جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وغيرها، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاما وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها، أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا .
والحديث التاسع، استدل به العلماء على مشروعية الحبس والوقف خلافا لمن منع ذلك وأبطله، فهو سنة مندوب إليها للقريب والبعيد؛ لقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}.
الحديث التاسع: الوقف مال رابح
عن أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران: 92)، قال أبو طلحة: أرى ربنا يسألنا من أموالنا، فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت أرضي بيرحاء لله، قال: فقال رسول الله[: «اجعلها في قرابتك» قال: فجعلها في حسان بن ثابت وأبيِّ بن كعب.
وفي رواية أخرى في الصحيحين: «كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب ماله إليه بيرحاء مستقبلة المسجد، وكان النبي[ يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس : فلما نزلت: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}(آل عمران:/92)، قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن الله يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله. فقال رسول الله[: «بخ ، ذلك مال رابح، أو رايح - شك ابن سلمة - وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين»، قال أبو طلحة: أَفْعلُ ذلك يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وفي بني عمه.
وقد بوب لهذا الحديث البخاري باباً أسماه: (باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز، وكذلك الصدقة)، وأوضح ابن حجر في الفتح: «أن هذا الجواز محمول على ما إذا كان الموقوف أو المتصَّدق به مشهورا متميزا بحيث يؤمن أن يلتبس بغيره، وإلا فلا بد من التحديد اتفاقا.. ويحتمل أن يكون مراد البخاري أن الوقف يصح بالصيغة التي لا تحديد فيها بالنسبة إلى اعتقاد الواقف وإرادته لشيء معين في نفسه، وإنما يعد التحديد لأجل الإشهاد عليه ليبين حق الآخر» .
وشرح الحديث: أن أبا طلحة كان أكثر الأنصار مالاً من نخل، أي أغنى رجال الأنصار في المدينة، وكانت له مزرعة تسمى «بيرحاء» في أرض ظاهرة منكشفة، وهي مستقبلة مسجد رسول الله[، وكان أبو طلحة يحبها كثيرا؛ ومن جمالها وعذوبة مائها، كان النبي[ يدخلها ويشرب من ماء فيها عذب المذاق، ويستظل فيها، فلما نزلت الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، أي: لن تصيبوا ثواب الله - وقيل: الجنة - حتى تقدموا من أموالكم في سبيل الله ما تتعلق به قلوبكم، وقال عطاء: «لن تنالوا البر أي شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحاء أشحاء»، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يشتري أعدالاً من سكر ويتصدق بها، فقيل له: هلا تصدقت بقيمتها؟ فقال: لأن السكر أحب إلي فأردت أن أنفق مما أحب، وقال الحسن: إنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولن تدركوا ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون.
فقال أبو طلحة مبادراً إلى إنفاق ما يحبه: «وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله»، فقال[ إقراراً بفعله: «بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح» و(بخ) معناها تفخيم الأمر والإعجاب بما قاله أبو طلحة؛ وقد وصف[ تلك الصدقة بالمال الرابح. «فقسمها أبو طلحة» وجعلها حدائق بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب.
وسارع الصحابي الجليل عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- في الإنفاق مما أحب من ماله حينما سمع الآية الكريمة، فقد أخرج البزار، عن ابن عمر قال: «حضرتني هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، فذكرت ما أعطاني الله عز وجل، فلم أجد شيئا أحب إلي من مرجانة - جارية لي رومية، فقلت: هي حرة لوجه الله، فلو أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها».
وفوائد هذا الحديث أجمعها بالآتي:
الحديث فيه دلالة على مشروعية الوقف وفضله، وفيه جواز القول: إن الله يقول، كما يقال: إن الله قال، وقال الله، وفيه استحباب الإنفاق مما يحب، ومشاورة أهل العلم والفضل في كيفية الصدقات ووجوه الطاعات وغيرها .
وفيه أن الصدقة على الأقارب أفضل من الأجانب إذا كانوا محتاجين، وفيه أن القرابة يرعى حقها في صلة الأرحام وإن لم يجتمعوا إلا في أب بعيد؛ لأن النبي[ أمر أبا طلحة أن يجعل صدقته في الأقربين فجعلها في أبي بن كعب وحسان بن ثابت، وإنما يجتمعان معه في الجد السابع، وفيه تقديم الأقرب من الأقارب على غيرهم.
وفيه أنه لا يشترط في الموقوف عليه أن يكون قريباً من الموقِف أو من نسله، بل لصاحب الوقف أن يعطي القريب والبعيد على درجة سواء، فالوقف يجوز فيه التفاضل، ويجوز فيه تخطي القريب إلى البعيد، وفيه أنه لا يجب الاستيعاب للكل؛ لأن بني حرام الذين اجتمع فيهم أبو طلحة وحسان كانوا بالمدينة كثيراً.
وفيه أن الوقف لا يحتاج في انعقاده قبول الموقوف، وفيه جواز التصدق من الحي في غير مرض الموت بأكثر من ثلث ماله؛ لأن النبي[ لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به وما بقي له من المال والممتلكات.
وفيه اتخاذ الحوائط والبساتين ودخول أهل الفضل والعلم فيها، والاستظلال بظلها والأكل من ثمرها والراحة والتنزه فيها، وقد يكون ذلك مستحبا يترتب عليه الأجر إذا قصد به إجمام النفس من تعب العبادة وتنشيطها للطاعة، وفيه كسب العقار، وإباحة الشرب من دار الصديق ولو لم يكن حاضرا إذا علم طيب نفسه، وفيه إباحة استعذاب الماء وتفضيل بعضه على بعض.
وفيه جواز حب المال إلى الرجل الصالح الفاضل العالم، ولا نقص عليه في ذلك.
وفيه جواز إشهار الصدقة، وإشهار تخصيصها، وفيه جواز الوقف على الأقارب، وفيه فضيلة لأبي طلحة لأن الآية تضمنت الحث على الإنفاق من المحبوب فترقى هو إلى إنفاق أحب المحبوب، فصوب[ رأيه وشكر عن ربه فعله، ثم أمره أن يخص بها أهله، وكنى عن رضاه بذلك بقوله: «بخ».
وفي أنواع الوقف وأقسامه باعتبار الموقوف عليهم، لم يكن المتقدمون يفرقون في التسمية بين ما وقف على الذرية، وما وقف على غيرهم من جهات البر، بل الكل يسمى عندهم وقفاً، أو حبساً، أو صدقة، فهذا التقسيم لم يرد في اصطلاحات الفقهاء وإنما جرى به عرف الناس؛ لأن الأصل في الأوقاف كلهما أن تكون منسوبة إلى الخير لأنها من أعمال الإحسان والبر.
إلا أن المتأخرين مالوا إلى التمييز بين ما وقف على الذرية والأهل، وبين ما وقف ابتداءً على جهة من جهات البر، كالفقراء، أو طلبة العلم، أو المشافي، أو دور العلم، فأطلقوا على الأول: وصف الوقف الذري - أو الأهلي - وعلى الثاني: وصف الوقف الخيري، وحقيقة الأمر أن الوقف شامل لكلا المسميين، فالوقف سواء كان على الأهل، أم على سائر جهات البر، فيه معنى الخير، والإحسان، والصدقة، لا فرق .
والصحابة – رضوان الله عليهم - عرفوا نوعَي الوقف؛ العام والذَّري، وهذا واضح من خلال النصوص الوقفية التي كتبوها في وقفياتهم، وأشهدوا الناس عليها؛ فهذا عمر رضي الله عنه يقول: «في الفقراء والقربى، وفي سبيل الله، والضيف وابن السبيل». فهذا وقف خيري عام؛ لأن هؤلاء الأصناف ليسوا بمحصورين، بل هم صنف من الناس يكونون في كل زمان ومكان، وعرفوا كذلك الوقف الذري على الأبناء والأعقاب جيلاً بعد جيل، فهذا الصحابي عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول في صدقته: «إنها حبس؛ لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، على ولده، وولد ولده، فإذا انقرضوا فإلى أقرب الناس مني حتى يرث الله الأرض ومن عليها»، ومثل هذا كَتَب جمع من الصحابة والصحابيات رضوان الله عليهم.
لاتوجد تعليقات