رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 11 أكتوبر، 2011 0 تعليق

الأربعون الوقفية (5)

 

 

 


جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية - فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكاما وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وغيرها، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكام وفوائد جمة عظيمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.

      والحديث الخامس، فيه حرص صحابة رسول الله [ على حبس ووقف الدور والآبار والبساتين؛ اقتداء بفعل النبي [ وسنته، وامتثالاً لتوجيهه وإرشاده.

أوقاف الصحابة رضوان الله عليهم

قال جابر : “لم يكن أحد من أصحاب النبي  ذو مقدرة إلا وقف”(1).

      حديث موقوف على الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري ]، الذي نص في عبارة جامعة على ما بذله صحابة رسول الله من مالهم في البر والإحسان، والوقف على وجه الخصوص. وأورد ابن قدامة المقدسي في كتابه «المغني» ذلك الحديث بأن جابراً قال: “لم يكن أحد من أصحاب النبي ذو مقدرة إلا وقف، وهذا إجماع منهم، فإن الذي قدر منهم على الوقف وقف، واشتهر ذلك ولم ينكره أحد، فكان إجماعاً”(2).

      وروى الخصاف في «أحكام الأوقاف» عن محمد بن عبد الرحمن عن سعد بن زرارة قال:» ما أعلم أحداً من أصحاب رسول الله [ من أهل بدر من المهاجرين والأنصار إلا وقد وقف من ماله حبساً، لا ُيشترى، ولا يورث ولا يوهب، حتى يرث الله الأرض ومن عليها (3)

      وأكد ذلك القرطبي بقوله : “إن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص والزبير وجابراً كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة”(4). واستدل أهل العلم على أوقاف الصحابة بوقف ابن عمر حينما أوقف نصيبه من دار عمر رضي الله عنهما سكنى لذوي الحاجة من آل عبد الله، ‏ووقف أنس‏ بن مالك ‏دارا له بالمدينة فكان إذا حج مر بالمدينة فنزل داره، ‏وتصدق الزبير بدوره، وقال للمردودة – أي المطلقة - من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضار بها فإن استغنت بزوج فليس لها حق (5).

      وكذلك فاطمة بنت رسول الله [ حينما تصدقت بمالها على بني هاشم وبني المطلب، وكذلك علي ] تصدق عليهم وادخل معهم غيرهم. وحبس زيد ابن ثابت ] داره التي في البقيع وداره التي عند المسجد.

      وقال الحميدي شيخ البخاري: وتصدق أبو بكر الصديق ] بداره بمكة وتصدق عمر بن الخطاب ] بربعه عند المروة وبالثنية على ولده ، وتصدق على بن أبى طالب ] بأرضه بينبع، وتصدق الزبير بن العوام ] بدراه بمكة وداره بمصر، وأمواله بالمدينة، وتصدق سعد بن أبى وقاص ] عنه بداره بالمدينة وبداره بمصر، وعثمان بن عفان ] برومة، وعمر وبن العاص ] بالوهط من الطائف وداره بمكة على ولده فذلك إلى اليوم وحكيم بن حزام ] بداره بمكة والمدينة (6).

وقد جاء في الحديث والسير أن كل من كان له مال من الصحابة رضي الله عنهم وقف من ماله إما وقفا ذريا خاصا، أو عاما، ومن ذلك: أن أبا بكر الصديق ] وقف داره بمكة على ولده، وعمر ] وقف ربعه عند المروة وبالثنية على ولده، وتصدق بماله الذي بخيبر ووادي القرى وغير ذلك، وعثمان بن عفان ] وقف بئر رومة فهي وقف إلى اليوم، وعلي بن أبي طالب ] وقف أرضه بينبع والمدينة ووادي القرى وفدك، وتصدق سعد بن أبي وقاص ] بدُوره على أولاده من البنين والبنات، وأن للمطلقة من بناته أن تسكن فيها غير مُضِرَّة، ولا مُضَارٍّ بها؛ ووقف الزبير بن العوام ] داره التي  بمكة، وداره التي بمصر، وأمواله بالمدينة على ولده.

      ووقف طلحة بن عبيد الله ] داره بالمدينة، وجعل ابن عمر نصيبه من دار عمر سكنى لذوي الحاجات من آل عمر، وحبس زيد بن ثابت ] داره التي عند البقيع وداره التي عند المسجد، وحبس عمرو بن العاص ] أرضه المسماة (الوَهَط والوُهَيْطِ) في الطائف وداره التي بمكة على ولده.

      وحبس خالد بن الوليد ] داره التي بالمدينة، ووقف حكيم بن حزام ] داره الشارعة في البلاط، ووقف أنس ] داراً له بالمدينة، واشترت عائشة رضي الله عنها داراً، وكتبت في شرائها: إني اشتريت داراً، وجعلتها لما اشتريتها له، فمنها مسكن لفلان ولِعَقِبِه ما بقي بعده إنسان، ومسكن لفلان، وليس فيه لعقبه، ثم يرد بعد ذلك إلى آل أبي بكر. ووقفت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها دارها صدقة، حبس لا تباع ولا توهب ولا تورث.

      ووقفت أم سلمة رضي الله عنها صدقة حبساً لا تباع ولا توهب، ووقفت أم حبيبة، وصفية أمهات المومنين رضي الله عنهن، ووقف جابر بن عبد الله رضي الله عنه بستانه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ووقف سعد بن عبادة وقفا عن أمِّه فيها سقي الماء، ثم حبس عليها مالاً من أمواله، على أصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ووقف عقبة بن عامر ] دارا تصدق بها حبساً؛ لا تباع ولا توهب ولا تورث، على ولده وولد ولده، فإذا انقرضوا فإلى أقرب الناس مني، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

      وللدلالة على وفرة أوقاف الصحابة قال الشافعي -رحمه اللَّه-: « بلغني أن ثمانين صحابياً من الأنصار تصدقوا بصدقات محرمات «، والشافعي -رحمه اللَّه- يسمي الأوقاف: الصدقات المحرمات7.

      وقال ابن حزم -رحمه اللَّه-: « وسائر الصحابة جملة صدقاتهم بالمدينة أشهر من الشمس لا يجهلها أحد 8» .

      فقد تنافس السلف الصالح - رحمهم الله - من لدن الصّحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم على وقف بعض أملاكهم ابتغاء ما عند الله من الأجر والثّواب؛ ولا شك أن ذلك من باب حفظ ونماء للمال، فقد جاء عن المغيرة بن شعبة  قال: قال رسول الله [: “إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال9».

      والوقف من حفظ المال ونمائه، ومن الشّواهد على ذلك ما ذكر ابن بطوطة  من وصف للأوقاف الّتي شاهدها في رحلته إلى دمشق حيث يقول: « والأوقاف بدمشق لا تحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها، فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج يعطى لمن يحج عن الرّجل منهم كفاية، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهن، وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن، ومنها أوقاف لفكاك الأسرى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل، يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم 10»

      وكان ابن جبير – رحمه الله – الذي تقدم ابن بطوطة بأكثر من قرن ونصف القرن، (614 هـ  - 1217 م)  قد زار دمشق، وأدهشه ما عاين فيها من غزارة الأوقاف، حتّى « إنّ البلد تكاد الأوقاف تستغرق جميع ما فيه11».

      وازدهرت الأوقاف في العهود الإسلامية ازدهاراً عظيماً، وذلك في مصر والشام ونجد والحجاز والمغرب العربي وغيرها من البلاد المفتوحة، وذلك بسبب كثرة الأموال التي تحصّل عليها المجاهدون من الفتوحات الإسلامية، وكان من ثمار ذلك أن اتسعت مجالات الوقف في ذلك العصر، فلم يعد الوقف مقصورا على جهات الفقراء والمساكين فقط بل تعدى ذلك إلى بناء دور العلم والإنفاق على طلاب العلم، وإنشاء المساجد والدور الخيرية، بل وإلى تأسيس المكتبات والإنفاق عليها، وإنشاء المصحات وكانت مخصصة لعلاج المرضى بالمجان، وكذلك إنشاء الدور لسكن الفقراء والمساكين.

      وقد سجَّل التاريخ لكثير من أهل الخير والثراء من المسلمين: أنهم وقفوا - بدافع الرحمة التي قذفها الإيمان في قلوبهم، والرغبة في مثوبة الله لهم، وألاَّ ينقطع عملهم بعد موتهم - أموالهم كلَّها أو بعضها على إطعام الجائع، وسقاية الظمآن، وكسوة العريان، وإعانة المحروم، ومداواة المريض، وإيواء المشرَّد، وكفالة الأرملة واليتيم، وعلى كلِّ غرض إنساني شريف، بل أشركوا في برِّهم الحيوان مع الإنسان12.

ولقول جابر الأنصاري ] فوائد عديدة نستخلص منها الآتي :

      الوقف عبادة ظاهرة معلومة عند الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، والسلف الصالح من بعدهم على مر العصور، حرص عليها صحابة رسول الله [؛ وكانوا بذلك قدوة لما بعدهم من المسلمين.

      وفيه تنوع أوقاف الصحابة وتلمسهم في حبسها ومصارفها حاجات الأسرة والمجتمع لتوفير الحياة الكريمة لكل إنسان في المجتمع المسلم، لتترابط الأسر، وتتواصل الأرحام، وتنتشر المحبة والألفة بينهم، وفيه سعي الصحابة الكرام في أوقافهم الوصول إلى أكبر عدد من المستفيدين.

      وفيه أن وقف الدور من أشهر الأوقاف عند الصحابة، وفيه اتساع الوقف في عهد الخلفاء الراشدين أفضل العصور الإسلامية بعد عصر النبوة، فكثرث المساجد والدور والبساتين والآبار الموقوفة.

      والوقف نظام إسلامي أخرج بأحكامه وتطبيقاته مؤسسات إسلامية ساهمت في صناعة الحضارة الإسلامية ونهضة الأمة، بشموله كل مناحي الحياة التعبدية والتعليمية والثقافية والإنسانية والإرشادية والمعيشية والإغاثية،  وبذلك حفظ للمسلمين دينهم وعلمهم وهويتهم وقيمهم حتى في أشد الظروف صعوبة، وأكثرها قساوة.

الهوامش

1- أورده ابن قدامة في المغني 8/185 ، والزركشي 4/269 ، ولم أقف عليه مسنداً.

(2) المغني 8/186.

(3)أحكام الأوقاف للخصاف، ص15.

(4) تفسير القرطبي 6/318.

5 - انظر فتح الباري كتاب الوصايا، باب إذا وقف أرضاً أو بئراً أو اشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين ( 7/24) .

6 - أنظر السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الوقف، باب  الصدقات المحرمات  ( 6/161 ) .

7 - مغني المحتاج 2/376 .

8 - المحلى 9/180.

(9) أخرجه البخاري في الرقاق، باب ما يكره من قيل وقال، برقم (6473) ومسلم في الأقضية، باب النهي عن قيل وقال، برقم (593). والوقف من سبل الحفاظ على المال ونمائه .

10 - تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار المعروف بـ»رحلة ابن بطوطة»، ص: 119 – 120.

11 - رحلة ابن جبير، ص: 213.

12 - الوقف الخيري وأثره في تاريخ المسلمين للشيخ يوسف القرضاوي، ww.qaradawi.net

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك