رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 3 أكتوبر، 2011 0 تعليق

الأربعون الوقفية (4)

 

جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وغيرها، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة عظيمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف والهيئات والمؤسسات برعاية الأصول الوقفية ونمائها، أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وأن ينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا .

       والحديث الرابع، فيه أول وثيقة وقفية في الإسلام، وقد استند كل من كتب كتاب وقفه من الصحابة  -رضوان الله عليهم- إلى ما جاء في ذلك الكتاب، وفيه من الفوائد والدلالات الكثير.

الحديث الرابع: كتابة الوقف وتوثيقه

       عن يحيى بن سعيد عن صدقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: نسخها لي عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث، أن ثمغا وصرمة ابن الأكوع والعبد الذي فيه والمائة سهم التي بخيبر ورقيقه الذي فيه، والمائة التي أطعمه محمد صلى الله عليه وسلم  بالوادي، تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، ألا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل، والمحروم، وذوي القربى، ولا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقا منه»(1).

       حديث موقوف(2)، فيه كتاب صدقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه(3)، التي أوقفها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم  بعدما ملك أرضاً في خيبر، وكانت من أنفس وأجود ما حاز رضي الله عنه، فاستشار رسول اللهصلى الله عليه وسلم  في صفة الصدقة بها. فأشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم : «‏إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها» ففعل.

       وابتدأ كتابه بالتسمية، ثم بنص الكتاب: «هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين»، الوقف قربة لله تعالى من عباده، إن حدث بعمر ] حدث أي موت، «أن ثمغاً وصرمة ابن الأكوع»: وهما مالان معروفان بالمدينة كانا لعمر بن الخطاب فوقفهما، وثمغ: هي أرض تلقاء المدينة كانت لعمر رضي الله عنه؛ وقيل المراد بالصرمة القطعة الخفيفة من النخل ومن الإبل.

       «والعبد الذي فيه»: أي لعمل ثمغ، والمائة سهم التي بخيبر، حيث ثمغ من جملة أراضي خيبر، وأن مقدارها كان مقدار مائة سهم من السهام التي قسمها النبي صلى الله عليه وسلم  بين من شهد خيبر، وهذه المائة سهم غير المائة سهم التي كانت لعمر بن الخطاب بخيبر التي حصلها من جزئه من الغنيمة وغيره، «والمائة التي أطعمه محمد صلى الله عليه وسلم  بالوادي»، والمراد بالوادي يشبه أن يكون وادي القرى(4).

       وأوصى بها عمر إلى حفصة أم المؤمنين ثم إلى الأكابر من آل عمر، وقد بين ذلك عمر بن شبة عن أبي غسان المدني قال: «هذه نسخة صدقة عمر أخذتها من كتابه الذي عند آل عمر فنسختها حرفاً حرفاً: هذا ما كتب عبد الله عمر أمير المؤمنين في ثمغ، أنه إلى حفصة ما عاشت تنفق ثمره حيث أراها الله، فإن توفيت فإلى ذوي الرأي من أهلها»، وهذا يقتضي أن عمر إنما كتب كتاب وقفه في خلافته؛ لأن معيقيباً كان كاتبه في زمن خلافته، وقد وصفه فيه بأنه أمير المؤمنين، فيحتمل أن يكون وقفه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم  باللفظ، وتولى هو النظر عليه إلى أن حضرته الوصية فكتب حينئذ الكتاب، وألا يباع، وإن أكل هو: أي ولي الصدقة، أو آكل غيره من صديق وضيف،  أو اشترى رقيقا: عبدا منه: أي من محصول ثمغ وما ذكر معه لعمله(5).

       وكتاب وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أول وثيقة وقفية في الإسلام(6)، وقد استند كل من كتب كتاب وقفه من الصحابة  ر-ضوان الله عليهم- إلى ما جاء في كتاب عمر -رضي الله عنه-، وهنالك خلاف في أول وقف عند المسلمين، فبعضهم يرى أن وقف عمر بن الخطاب ] هو أول وقف خيري في الإسلام، وبعضهم الآخر يعد أول وقف هو وقف «الحوائط السبعة»التي أوصى بها  «مخيريق»(7)- يهودي قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم  في أحد - رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم  لكي «يضعها حيث أراه الله».

       والأنصار يرون أن صدقة الرسول صلى الله عليه وسلم  هي أول صدقة؛ لأنها جاءت بعد معركة أحد على رأس اثنين وثلاثين شهراً من هجرة الرسول، بينما صدقة عمر جاءت في السنة السابعة للهجرة، بينما كان المهاجرون يرون أن صدقة عمر بن الخطاب أول ما حبس من الأموال، ولعل الخلاف سببه أن «الحوائط السبعة» التي أوصى بها «مخيريق» تدخل ضمن وصايا أو أوقاف غير المسلمين التي اختلف حولها الفقهاء لاحقاً، وتحوطه بعض الأمور التي تجعله يختلف عن الوقف الآخر وقف عمر بن الخطاب، فوقف عمر  رضي الله عنه توافرت فيه عناصر عدة أصبحت تمثل مرجعية لما جاء بعده من أوقاف.

       وروى الخصاف عن الزهري ما يفيد بوجود مثل هذا الكتاب الأول للوقف حيث قال: «أقرأني سالم ابن عبد الله صدقة عمر بن الخطاب بثمغ»(8)، وروى أيضاً بالسند إلى بشير مولى المازنيين قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: «لما كتب عمر ابن الخطاب صدقته، في خلافته، دعا نفرا من المهاجرين والأنصار فأحضرهم ذلك وأشهدهم عليه فانتشر خبرها»(9).

       وروى الخصاف خبراً آخر إلى عامر بن ربيعة أنه شهد أن عمر بن الخطاب بقي يدير وقفه بنفسه أو يقسم ثمرة أرضه بثمغ إلى السنة التي توفي فيها، «ثم صار إلى حفصة». وبالاستناد إلى ذلك ينقل الخصاف عن الفقيه أبي يوسف بعد سماعه لما قاله الواقدي استخلاصه للقاعدة الفقهية المعروفة: «إذا اشترط الذي وقف الوقف أنه في يديه في حياته ثم إذا توفي فهو إلى فلان بن فلان فهو جائز»(10).

       والتوثيق معروف عند الفقهاء، فقد دون الفقهاء أحكامه وبينوا أهميته ورسموا الإجراءات اللازمة لإثبات الأوقاف وتوثيقها. وعليه عمل الناس من زمن النبي صلى الله عليه وسلم  ومن بعده من الأجيال المتعاقبة حتى يومنا هذا.كما أن في إثبات الأوقاف وضبط إجراءاتها حفظًا لها من الاندراس والنسيان أو الاعتداء عليها بالظلم والعدوان وضبط جميع الحقوق المتعلقة بها، وهو مقصد معتد به في الشرع(11).

       وكان توثيق الأوقاف ورسم الإجراءات اللازمة لإثباتها موضع اهتمام العلماء الذين ألفوا في علم التوثيق، ويسمى- أيضًا: «علم الشروط»، وهو فرع من علم الفقه يبحث في كيفية تدوين العقود والإقرارات والمحاضر والسجلات القضائية طبقًا للأحكام المرعية وعلى وجه يصح الاحتجاج بها(12).

       وأشاد العلماء بعلم التوثيق فقال ابن فرحون (ت: 799هـ) بأنه: «صناعة جليلة شريفة، وبضاعة عالية منيفة، تحتوي على ضبط أمور الناس على القوانين الشرعية، وحفظ دماء المسلمين وأموالهم والاطلاع على أسرارهم وأحوالهم..»(13).

       وقد قرر الفقهاء أن على القاضي عند توليه قضاء بلد أن يباشر بالنظر في أمر الموقوف والوصايا على الجهات العامة التي لا ناظر عليها(14)؛ لهذا اعتنى القضاء الإسلامي في العهود الإسلامية السابقة بالأوقاف، وكان القضاة يعتنون بها ويتفقدونها، ويجتهدون في إثبات الأوقاف التي في أيدي الناس، وتوثيقها جميعاً، ولم يتركوا منها وقفاً حتى يحكم فيه ويوثق، إما ببينة تثبت عنه، وإما لإقرار أهل الوقف والحبس .

       ومن فوائد الحديث: استحباب إثبات الوقف بالوسائل الشرعية التي تحفظ عين الوقف من العدوان عليه، وفيه إثبات الوقف بالكتابة أيضًا؛ لأن الكتابة أبقى من الشهادة؛ لذهاب أعيان المستشهد بهم، ووقف عمر -رضي الله عنه- ثبت بداية بالإشهاد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتابة الأحاديث النبوية الشريفة الخاصة به وتدوينها، ومع ذلك كتب عمر -رضي الله عنه- وثيقته وأشهد عليها. وفيه استحباب التفصيل في كتب ووثائق الوقف لحفظ الوقف واستمراره، وإزالة اللبس في أعيانه وحدوده وشروطه ومصارفه، ومن يتولاه في النظارة .  

       وفيه تخصيص حفصة – أم المؤمنين - دون إخوتها وأخواتها في النظارة على وقف عمر رضي الله عنهما، وفيه دلالة على رجاحة عقلها وحسن إدارتها، وفيه أهمية اختيار ناظر الوقف من أهل الرأي والخبرة، لتعم الفائدة ويحصل المقصود،  لقوله: «ثم يليه ذو الرأي من أهلها».    

       وفيه : توثيق الوقف صيانة للحقوق، وقطعا للمنازعة، وديمومة للوقف، وفيه جواز نظارة المرأة على الوقف إذا كان فيها كفاءة للقيام بشؤون النظارة، وتقديمها على من هو من أقرانها من الرجال، وفيه إشهار للوقف وتشجيع للقادرين على الوقف احتباس أنفس ما يملكون وقفاً لله تعالى.

       والوقف مجال للتدريب والتطوير وتنمية القدرات البشرية> لذا كان الوقف في العهود الإسلامية مدرسة في الإدارة والأمانة، واستشعار المسؤولية، والتطوير والابتكار والتجديد والإبداع، لمصلحة الوقف والفئات التي تنتفع بريعه أو بعينه.

       والحكمة من مشروعية التوثيق للوقف واضحة جلية، قال الشيخ السعدي رحمه الله: «فكم في الوثاق من حفظ حقوق، وانقطاع منازعات»(15)، فتوثيق الأوقاف من أعظم أسباب حفظها واستمرارها، ودفع أيدي المعتدين والطامعين فيها، وهو السبيل الذي يحقق مقاصد الواقفين في بقاء أوقافهم مع تعاقب السنين، والحفاظ عليها من الضياع والاندثار، والتقيد بمصارفها كما نص عليها الواقف، وضبطها من التغيير والأهواء.

       ولا شك في أن توثيق الوقف لدى جهة شرعية معتبرة، أو عالم بالوثائق وكيفيتها، سلامة للوقف من الخلل والنقص، وإبعادا له عما يفسده.   

- الهوامش:

1 - أخرجه أبو داود في سننه كتاب الوصايا، باب: ما جاء في الرجل يوقف الوقف برقم (1876)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (2879)، وفي الحديث كاملاً كتابان لوقف عمر رضي الله عنه، أحدهما هو: «بسم الله الرحمن الرحيم - إلى قوله: وشهد عبدالله ابن الأرقم» وثانيهما هو: «بسم الله الرحمن الرحيم - إلى قوله: أو اشترى رقيقا منه»، وفي الكتاب الثاني بعض زيادات ليست في الأول، وذكر هذين الكتابين عمر بن شبة أيضاً كما قال الحافظ في الفتح، فنسخ عبدالحميد ليحيى بن سعيد كلا الكتابين، وأذكر هنا نص الكتاب الثاني لاشتماله على ما جاء في الكتاب الأول.

2 - الحديث الموقوف هو ما يروى عن الصحابة من أقوالهم أو أفعالهم ونحوها فيوقف عليهم ولا يتجاوز به إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم ، ومنه الصحيح والضعيف والموضوع، انظر مقدمة ابن الصلاح.

3 - ويطلق عليها كذلك مسمى: وثيقة وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

4 - انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود (8/59 - 60).

5 0 المرجع السابق (8/61).

6 - الوثيقة الإسلامية صك كتب ليكون حجة في المستقبل لإثبات حق أو التقيد بالتزام، سواء أكان ذلك بين طرفين أم بإرادة منفردة واحدة، كالوصية والوقف، انظر عبدالله بن محمد الحجيلي، دراسة وثائقية وقفية في الإسلام، مجلة أوقاف، العدد3، الكويت 2002م ص101.

7 - مخيريق كان أحد بني ثعلبة بن الغيطون، فلما كان يوم أحد قال: يا معشر يهود, والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء، وذكر الواقدي أنه قد أسلم، وقال ابن كثير: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  «مخيريق خير يهود» (البداية والنهاية 4/38، الإصابة في تمييز الصحابة 6/73)، ذكر ابن حجر في الفتح: أن أول صدقة كانت في الإسلام أراضي مخيريق التي أوصى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم  فوقفها النبي صلى الله عليه وسلم .

8 - أحكام الأوقاف، للخصاف ص (7).

9 - أحكام الأوقاف، لأبي بكر أحمد الشيباني المعروف (بالخصاف) ص(6).

10 - أحكام الأوقاف، للخصاف ص(8).

11 - انظر الأصول الإجرائية لإثبات الأوقاف، للشيخ عبدالله بن محمد بن سعد آل خنين، بحث ضمن بحوث ندوة الوقف والقضاء، الرياضي (10 - 12) صفر 1426هـ.

12 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (2/1045).

13 - تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (1/282).

14 - دقائق أولي النهى لشرح المنتهى (3/477)، كشاف القناع عن متن الإقناع (6/325).

15 - تيسير الكريم الرحمن ص (141).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك