رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 1 يوليو، 2012 0 تعليق

الأربعون الوقفية (38)

 

 

جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.

 

 

الحديث الثامن والثلاثون:

الوقف لسكنى الحجاج

عن ثُمَامة، عن أنس: «أنه وقَفَ دارًا بالمدينة، فكان إذا حج مرَّ بالمدينة، فنزل دارهُ» (1).

حديث موقوف(2)، فيه أن الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه ، أوقف داراً له في المدينة، وسكن بعد ذلك العراق(3)، فكان إذا قدم إلى الحج ومر بالمدينة نزل داره الموقوفة.

     وعقد البخاري في كتاب الوصايا، باباً أسماه: «إذا وقف أرضاً أو بئراً أو اشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين» وذكر وقف أنس رضي الله عنه : «ووقف أنس داراً، فكان إذا قدم نزلها»(4). وعلق ابن حجر على فعل أنس رضي الله عنه بقوله: «وهو موافق لما تقدم عن المالكية أنه يجوز أن يقف الدار ويستثني لنفسه منها بيتًا»(5). ‏

      والوقف من الأعمال الخيرية لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد امتثلوا رضوان الله عليهم لتوجيه النبي  صلى الله عليه وسلم  ، وإرشادهم لما يُصلح الدنيا والدين، وينفعهم في آخرتهم، ويُكتب لهم فيه من الأجر كعمل أعمار كاملة، فيستمر معها الأجر مادام النفع من ذلك الوقف. وقد استدل أهل العلم على مشروعية الوقف من الكتاب، والسنة، والإجماع، وعمل الصحابة.

      وقال الحميدي شيخ البخاري: «تصدق أبو بكر بداره على ولده، وعمر بربعة عند المروة، وعثمان برومة، بئر بالمدينة، وتصدق علي بأرضه بينبع، وتصدق الزبير بداره بمكه، و داره بمصر، وأمواله بالمدينة على ولده، وتصدق سعد بداره بالمدينة، وداره بمصر على ولده، وعمرو بن العاص بالوهط، وداره بمكه على ولده، وحكيم بن حزام بداره بمكة والمدينة على ولده. قال: فذلك كله إلى اليوم، فإن الذي قدر منهم على الوقف، وقف، واشتهر ذلك فلم ينكره أحد، فكان إجماعاً»(6).

وكذلك جعل ابن عمر نصيبه من دار عمر سكنى لذوي الحاجات من آل عبد الله بن عمر(7).

       وهذا دلالة على اهتمام الصحابة الكرام بالوقف، وكانوا يختارون منه ما كان أكثر نفعاً في زمنه. ووقف أنس رضي الله عنه لتوفير السكن لحجاج بيت الله الحرام، وحاجة الحاج إلى السكن ماسة؛ ولهذا أوقف الكثير من صحابة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  دورهم التي في مكة والمدينة لينتفع بها من شد الرحال إلى الحج أو العمرة أو للصلاة في المسجد الحرام ومسجد رسول  صلى الله عليه وسلم  بالمدينة. ولم يزل المسلمون من عهد رسول الله  صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا يوقفون الوقوف المتنوعة لمنافع الحجاج.

       قال عز الدين بن عبد السلام: «إن فضل الطاعات على قدر المصالح الناشئة عنها»(8)، وسئل عز الدين بن عبد السلام: لو ملك عقاراً وأراد الخروج عنه، فهل الأولى الصدقة به حالاً أم وقفه؟ فقال: «إن كان ذلك في وقت شدة وحاجة فتعجيل الصدقة أفضل، وإن لم يكن كذلك ففيه وقفه، ولعل الوقف أولى، لكثرة جدواه»(9). وبذلك فإن الوقف الأكثر نفعاً يكون أكثر أجراً.

وللحديث فوائد ودلالات: ففيه اهتمام الصحابة رضوان الله عليهم بالوقف وعنايتهم به وباستمرار نفعه.

       وفيه دليل على مشروعية الوقف، وفيه جواز انتفاع الواقف بوقفه،مثل ما فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه في وقفه بئراً في المدينة المنورة؛ حيث أوقفها على المسلمين وجعل دلوه كإحدى دلاء المسلمين، ووقف أنس دارا له في المدينة فكان إذا حج مر بالمدينة فنزل داره؛ فمن وقف مسجداً يكون هو وأولاده من جملة المصلين، ومن وقف معهداً أو مدرسة تحفيظ للقرآن الكريم يكون أولاده من جملة الدارسين من الطلبة. وقال أهل العلم بجواز شرط الواقف لنفسه منفعة من وقفه، وقال ابن بطال لا خلاف بين العلماء أن من شرط لنفسه ولورثته نصيبا في وقفه أن ذلك جائز.

وفيه أن الوقف وسيلة لحصول الأجر والثواب من الله تعالى وتكثيره، ومعه تطول سنة الانتفاع من المال ومد نفعه إلى أجيال متتابعة.

       وفيه فضيلة للصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه ، وفيه جواز إشهار الوقف وتحدث الواقف عن وقفه، وفيه أن الوقف جاء عند الصحابة بمسمى الحبس والوقف والصدقة.

        لقد كانت الأوقاف وما زالت مصدرا عظيما لسد الحاجات، ووعاء لاستيعاب أموال المسلمين في أمور خيرية تستمر وتنمو وتدوم؛ فالوقف يحقق مصلحة عامة للأمة، وكان لانتشار الأوقاف في العهود الإسلامية خير دليل على الدور الذي كانت تقدمه الأوقاف للأمة في جميع المجالات، من حيث الإسهام في تأمين المياه للناس من خلال إنشاء الآبار ومحطات المياه لحفظ النفس، وخير مثال على ذلك وقف زبيدة التي أجرت الماء من بغداد إلى مكة بدءا من عام 187للهجرة، وأنشأت في هذا الطريق مرافق ومنافع ظل يستفيد منها حجاج بيت الله الحرام منذ أيامها إلى وقت قريب.

        وكان للوقف الدور الكبير في تأمين المسكن المناسب من خلال تأجير العقارات الموقوفة لحفظ النفس، والمساهمة في تأمين الطعام للفقراء والمساكين، ومن في حكمهم لحفظ النفس من خلال التكايا والأوقاف التي خصصت لإطعام الطعام؛ حيث اشتهرت التكايا في أغلب المدن الإسلامية، في دمشق وبغداد والبصرة ومكة والحجاز والسليمانية والقدس والخليل وطرابلس والمغرب العربي ومصر وغيرها من الأمصار، وكذلك أوقفت البساتين المثمرة التي خصص ثمرها للفقراء وأهل الحاجة.

        وكان للأوقاف الإسهام في إنشاء دور العلم مثل كتاتيب تحفيظ القرآن والمدارس والمعاهد الدينية لحفظ العقل ونمائه، والمساهمة في بناء المساجد ودور العبادة وتيسير الحج وتقديم الخدمات للحجاج لحفظ الدين، والمساهمة في تحرير الأسرى والمعتقلين في سبيل الله لحفظ حرية النفس.

        يقول السائح «ذر وير» عام 1654 في كتاب نشر: «ولم تنحصر خيرات المسلمين في الأحياء فقط، بل امتدت إلى الأموات، وشجعت الدولة العثمانية إقامة بيوت الضيافة التي يستفيد منها كل إنسان مهما كان دينه، وتقدم فيها الخدمة لكل من يأتيها حسب حاجته لمدة ثلاثة أيام».

        فقد كان المسلمون في العهود الإسلامية يوقفون الأوقاف خوفاً على أموالهم من الضياع بعد مماتهم، أما اليوم فالمسلمون في الكثير من الدول لا يوقفون خوفاً على أموالهم في حياتهم وبعد مماتهم.

        وخلاصة القول: الوقف الإسلامي مشروع لنهضة الأمة وعودة عزها وقوتها ومكانتها وإحياء الوقف الإسلامي إحياء للقطاع الخيري ومؤسساته الذي يخدم الأمة والمجتمع والدولة، ولكي نعيد النهضة والحضارة الإسلامية لا بد أن نعيد الوقف الإسلامي إلى دوره. وإن استشراف المستقبل والتطلع الحضاري لأمتنا لن يكون إلا إذا أولينا الوقف الإسلامي غاية اهتمامنا، وعملنا بكل جهدنا لإحياء سنة الوقف، وإقامة المؤسسات الوقفية التي تُسهم في حفظ كرامة الإنسان، وتوفير الحياة الكريمة للأسرة المسلمة، وتوفير التعليم المميز الذي يحقق الإبداعات العلمية، والمؤسسات الصحية والثقافية التي تقدم الجديد كما كانت في عهود العزة.

 

 

الهوامش:

1- السنن الكبرى للبيهقي (6/161). وفتح الباري (7/24).

2- وصله البيهقي في السنن الكبرى.

3- وتُوفي رضي الله عنه بالبصرة، قيل: سنة إحدى وتسعين، وقيل: سنة اثنتين وتسعين، وقيل: سنة ثلاث وتسعين من الهجرة النبوية.

4- صحيح البخاري، برقم 2778.

5- فتح الباري ((7/25)

6- اخرج هذا الأثر بكامله البيهقي في السنن الكبرى في كتاب الوقف 6/161.

7 - فتح الباري (7/25). والطبقات الكبرى (4/162) ترجمة عبد الله بن عمر بن الخطاب.

8- الأشباه والنظائر، لجلال الدين السيوطي، 160، دار الكتب العلمية.

9- المنثور في القواعد للزركشي 1/345، و3/62. 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك