رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 25 يونيو، 2012 0 تعليق

الأربعون الوقفية (37)

 

جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها، أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.

 

الحديث السابع والثلاثون:

لك خيرٌ منه في الجنة

       عن ثمامة بن حزن القشيري عن عثمان رضي الله عنه قال: إن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : “من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة”، فاشتريتها من صلب مالي فزدتها في المسجد”(1).

        لما قدم النبي  صلى الله عليه وسلم المدينة، أمر عليه الصلاة والسلام ببناء مسجده، وكان الموقع المختار أرضاً كانت لبني النجار، فطلب  صلى الله عليه وسلم  من كبار بني النجار وأعيانهم أن يبيعوا أرضا لهم، ليبني عليها رسول الله  صلى الله عليه وسلم  مسجداً، فكان جوابهم أنهم جعلوا تلك الأرض وقفاً لله تعالى، لا يطلبون ثمناً لها من أحد، إلا الأجر والثواب من الله تعالى، فقد روي بالسند إلى أنس رضي الله عنه، أنه قال: “أمر النبي  صلى الله عليه وسلم  ببناء المسجد، فقال النبي  صلى الله عليه وسلم  : «يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا». قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله”(2). فأوقفوا أرضهم لمسجد رسول الله  صلى الله عليه وسلم  .

        ولما كثُر أهل الإسلام بعد سنوات من بناء رسول الله  صلى الله عليه وسلم  مسجده في المدينة، وضاق مسجد رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بالمصلين، ولم يعد يتسع  صلى الله عليه وسلم  لجموع المصلين، رغب النبي  صلى الله عليه وسلم  من بعض الصحابة أن يشتري بقعة بجانب المسجد، لكي تزاد في المسجد حتى يتسع لأهله، فقال  صلى الله عليه وسلم  : «من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة؟»، فاشتراها عثمان بن عفان - رضي الله عنه - من صلب ماله، ووسع على المسلمين رضي الله عنه وأرضاه.

       وذكر الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- روايات توضح مقدار المال الذي اشترى به عثمان رضي الله عنه البقعة التي زيدت في المسجد، فقال: “وزاد النسائي من رواية الأحنف بن قيس عن عثمان أنه اشتراها بعشرين ألفاً أو بخمسة وعشرين ألفاً”. (3)

         وبهذا الفعل وفق الله تعالى عثمان رضي الله عنه لأن يكون له أجر إلى يوم الدين، من هذا الفعل، من كل من شد الرحال من سائر أنحاء الدنيا إلى مسجد رسول الله، فهو رضي الله عنه صاحب الصولات والجولات في النفقة على الدين وخدمة الرسول الأمين وجميع المسلمين، فحينما قال  صلى الله عليه وسلم  من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ اشتراها عثمان، وحينما قال  صلى الله عليه وسلم  : من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة؟ اشتراها عثمان، وحينما دعا النبي  صلى الله عليه وسلم  لتجهيز جيش العسرة وكان الناس في ضيق وشدة وقلة جهزه عثمان، وفي كل مرة يقول عليه الصلاة والسلام: «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم. فقد عرف رضي الله عنه بالمسارعة إلى الخيرات؛ لأنه أراد الجنة، والجنة هي سلعة الله الغالية التي تحتاج إلى سعي وعمل وبذل وعطاء، قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا}(4)، ولتكون من أهل الجنة فلا بد من الإنفاق في سبيل الله تعالى.

        وفي هذا الحديث فوائد ودلالات: ففيه مشروعية وقف الأرض للمسجد، وفيه أهمية توسيع المساجد وهذا من باب إعمار المساجد، وامتثالا لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}(5). وقول النبي  صلى الله عليه وسلم  : « من بنى مسجداً لله تعالى يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة «(6).

        وفيه جواز تحدث الرجل بمناقبه عند الاحتياج إلى ذلك لدفع مضرة، أو تحصيل منفعة، وإنما يكره ذلك عند المفاخرة، والمكاثرة، والعجب، وهذا من مناقب أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه, وتباً للألسن والأقلام التي تطعن فيه.

      وفيه أن بناء المساجد وتوفير قطع الأرض للمساجد طريق إلى الجنة وباب أجر مستمر من الله تعالى كلما صلى به المصلون، وتعبد به العباد في قراءة القرآن ومجالس العلم والاعتكاف وغيرها من الأعمال، فهذا العمل باب لدخول الجنة.

       والمال محبوب إلى النفس، والمحبوب لا يبذل إلا ابتغاء محبوب مثله أو أكثر منه، ولهذا سميت صدقة لأنها تدل على صدق طلب صاحبها لرضا الله تبارك وتعالى، فعن أبي كبشة الأنماري رضي الله تعالى عنه، أنه سمع رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يقول: «ثلاثة أقسم عليهن: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر»(7).

        حديث جمع بلاغة الأسلوب، وسهولة المعاني، والترغيب والتشويق لثلاثة خصال حميدة وأخلاق كريمة، أولها: الإحسان بالصدقة، وثانيها: الصبر على الظلم، وثالثها: الاستعفاف عما بأيدي الناس. والصدقة لها بركة، فهي لا تنقص المال بل تزيده حسا ومعنى، فكيف إن كانت الصدقة مما يحبس أصلها ويصرف من ريعها ففضلها أكبر وأثرها أكبر.

والوقف أقام ورعى ومول في العهود الإسلامية ومراحل الحضارة الإسلامية، المساجد التي هي بيوت الله في الأرض، ودواوين الشؤون الإسلامية العامة، وأوتاد الإسلام في أوطان المسلمين، وهنا حقيقة بأن الأوقاف إذا ما لاقت الاهتمام الكافي من ناحية الإشراف عليها واستثمارها، فإنها كفيلة بالاعتماد عليها في تسيير كثير من الأمور في حياة الأفراد والمجتمعات.

       وفي شهادة غربية على دور الأوقاف في العهود الإسلامية كتب: (المستر إي اهلر) دراسة بعنوان «في البحث عن الهوية: دراسة في الوقف والمدينة الإسلامية في الشرق الأوسط» أكد فيها الباحث الآتي: «من المُسَلّم به بين دارسي الحضارة الإسلامية أن تطور البلدان والمدن في التاريخ الإسلامي لا يمكن تصوره من دون مؤسسة الوقف؛ حيث إن وضع الجامع في مكان ما وإحاطته بالأسواق والدكاكين الموقوفة عليه والمدارس الملحقة به، فرض نمطاً في التطور المعماري، ونقل الأمة نقلة حضارية في العمارة وتخطيط المدن، وتجلى هذا الأثر بأوضح أشكاله في المدن الصغيرة التي أوقفت بها أوقاف كبيرة، حيث أصبحت الأوقاف محور حياة المدينة وفرضت علاقات ليست في العمارة فقط، بل في الثقافة والاقتصاد والاجتماع. ولم تقتصر الأوقاف على الأسواق والمدارس وحدها، بل غالباً ما أضيف إليها المستشفيات والحمامات والخانات في أوقاف متكاملة جعلت مركز الحياة في المدينة الإسلامية تدور حول مؤسسات الوقف»(8).

فالمسجد موضوع لكل ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين؛ ولذلك أول ما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم  - المدينة اعتنى ببناء المسجد، وحث الإسلامُ على بناء المساجد، قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : «من بنى مسجدا لله، بنى الله له في الجنة مثله»، وفي رواية: «بنى الله له بيتا في الجنة» (9).

ولخص الإمام الحسن البصري -رحمه الله- فوائد المسجد بخمس، فقال: «أيها المؤمن لن تعدم في المسجد إحدى خمس فوائد:

أولها: مغفرة من الله تكفر ما سلف من الخطيئة، وثانيها: اكتساب رجل صالح تحبه في الله،

وثالثها: أن تعرف جيرانك فتتفقد مريضهم وفقيرهم.

ورابعها: أن تكف سمعك وبصرك عن الحرام، وخامسها: أن تسمع آية تهديك.

        ولهذا كان وما زال للمسجد دور ريادي في دولة الإسلام، فقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام المسجد جامعة كبرى للعقائد، والأخلاق والسلوك والآداب والخطابة وانطلاق الفتوحات ورد الغارات، بل المنتدى الرحب لاستقبال الوفود، ورسل الملوك، وممثلي القبائل، كل وفد يستقبله  صلى الله عليه وسلم  في المسجد لأنه المكان المناسب لتبادل الرأي والشورى والحكمة، وللأخذ والعطاء. فهو مكان العبادة والاعتكاف، ومكان التعليم والتوجيه، ومكان تشاور المسلمين وتناصحهم، ومركز عقد ألوية الجيوش المجاهدة في سبيل الله، ومكان استقبال الوفود القادمة لرسول الله  صلى الله عليه وسلم  .

وفي المسجد تربت خير أمة تحملت أعباء الدعوة، وصدقت في حمل راية الجهاد، ونشرت دين الله في ربوع الأرض كلها، فكان أول إمام للمسجد هو رسول الله -  صلى الله عليه وسلم  - ولم تكن مهمته قاصرة على الإمامة في الصلاة، بل لقد كان الأسوة الحسنة لكل داعية ولكل إمام من أئمة المساجد الذين يأتون بعده، فقد كان المربي، والواعظ، والمرشد، والحاكم بين الناس، والمفتي، والمعلم، فكان بذلك منبعاُ يفيض بالخير لمن حوله في كل جانب من جوانب البر والخير، وبذلك كان المسجد مصدر سعادة وخير للأمة تعلمت منه ما تحتاج إليه في أمر دينها ودنياها.

الهوامش:

1- أخرجه النسائي في سننه، في كتاب الأحباس، باب وقف المساجد، برقم 3608. وصححه الألباني في صحيح النسائي، برقم 3610.

2- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب: إذا وقف جماعة أرضاً مشاعاً فهو جائز، برقم 2771.

3- انظر: فتح الباري 5/408.

4- سورة الإسراء، الآية 19

5- سورة التوبة: الآية 18.

6- أخرجه مسلم في صحيحه، برقم: 533.

7- أخرجه الترمذي في سننه، برقم 2325

8- انظر: أبحاث ندوة نحو دور تنموي للوقف، وزارة الأوقاف الكويتية، صفحة 138-139.

9- أخرجه مسلم في صحيحه، برقم 533.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك