الأربعون الوقفية (36)
جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها، أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.
الحديث السادس والثلاثون :
أهل الوقف يدعون من باب الصدقة
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي في الجنة: يا عبدالله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان»(1).
ومن فضل وعِظم أجر الصدقة أن يبادر خزنة كل باب من أبواب الجنة لدعوة المتصدق كل يريده أن يدخل من قِبَله، وللجنة باب يقال له: باب الصدقة، يدخل منه المتصدقون.
فالجنة ليس لها باب واحد، وهذا من فضل الله على عباده ورحمته بهم أن جعل لها ثمانية أبواب لكل صنف من أصناف العمل والطاعة باب يدخل منه أهله، فمن كان ميسرا للصلاة دخل من باب الصلاة، ومن كان ميسرا للجهاد دخل من باب الجهاد، ومن كان ميسرا للصدقة دخل من باب الصدقة.
والمراد بالزوجين: إنفاق شيئين من أي صنف من أصناف المال من نوع واحد(2)، والمراد بقوله: «في سبيل الله»: عموم الإنفاق في وجوه الخير، وقيل: مخصوص بالجهاد، والأول أصح وأظهر(3)، فمن أنفق زوجين أي صنفين من أصناف المال في طلب ثواب الله تعالى، دعي من أبواب الجنة الثمانية.
وقد أبان العيني أن المراد بالصدقة هنا: النافلة؛ لأن الزكاة الواجبة لا بد منها لجميع من وجبت عليه من المسلمين، ومن ترك شيئاً منها فيخاف عليه أن ينادى من أبواب جهنم(4).
ومعنى الحديث أن كل عامل يدعى من باب ذلك العمل, وقد جاء ذلك صريحًا من وجه آخر عن أبي هريرة: «لكُلِّ عامل باب من أبواب الجنة يُدعى منه بذلك العمل». أخرجه أحمد وابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح(5).
والوقف في الإسلام نوع من أنواع الصدقات التى رغب الشارع فيها وندب إليها، وهو وسيلة من وسائل القرب التى يتقرب بها العبد إلى ربه، ولا فرق في ذلك بين الوقف على جهة عامة كالفقراء وطلبة العلم ونحو ذلك، أو الوقف على القرابة والذرية، إلا أن السلف الأول من هذه الأمة يفضلون أن يكون للمساكين(6).
وكل وقف صدقة، وليس كل صدقة وقفاً، وكذلك ليس كل صدقة جارية وقفاً، ولكن كل وقف صدقة جارية، فقد يكون للمسلم أجر جارٍ من عمل عمله كنشر العلم، وأحياء سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه أعمال أجرها مستمر ولكنها لا تعد وقفاً.
فالوقف «تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة»، أي: «منع تملك العين؛ لأنها خرجت من ملك البشر إلى ملك الله تعالى». والأصل: هو العين الموقوفة: «عقار، بستان، سلاح، دابة، أدوات...»، وتسبيل: أي جعل لعوائد مصروفة للجهة المقصودة في الوقف والمعنية به، والمنفعة إما تكون بعين الوقف أو بريع الوقف.
وللوقف هدف عام، وهو إيجاد مورد دائم ومستمر لتحقيق غرض مباح من أجل مصلحة معينة، وله كذلك أهداف خاصة، أهمها:
امتثال أمر الله سبحانه وتعالى بالإنفاق والتصدق والبذل في وجوه البر، كما أن فيه امتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة وحثه عليها.
ضمان بقاء المال ودوام الانتفاع به والاستفادة منه، وحماية للمال ومحافظة عليه من عبث العابثين.
استمرار الأجر للواقف، والنفع للموقوف عليه، فالوقف من الأعمال التي لا تنقطع بموت صاحبها بل يستمر معها الأجر والثواب.
تحقيق التكافل والتعاضد بين الأمة، وإيجاد التوازن في المجتمع.
وهو عامل من عوامل تنظيم الحياة بمنهج حميد، يرفع من مكانة الفقير وتقوية الضعيف.
وفي الوقف تحقيق لأهداف اجتماعية واسعة وأغراض خيرية شاملة.
وبالوقف يمكن للمرء أن يؤمن مستقبله ومستقبل ذريته بإيجاد مورد ثابت يضمنه ويكون واقياً لهم عن الحاجة والعوز والفقر.
والوقف يحقق للأمة الطمأنينة النفسية في الدنيا، والفوز في الدار الآخرة.
وفي الوقف بر للموقوف عليه، وقد حث الشرع الكريم على البر ورغب فيه.
وفى الوقف تطول مدة الانتفاع من المال، ويمتد نفعه إلى أجيال متتابعة.
وللحديث فوائد ودلالات: ففيه أن الجنة درجات، وأن هذه الدرجات أعدها الله عز وجل للمؤمنين على قدر أعمالهم الصالحة، قال تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار}(البقرة: 25)، وقال[: «إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة» (7).
وفيه أن للجنة ثمانية أبواب تسمى بأسماء الأعمال الصالحة، فهناك باب للصائمين يدعى (الريان) وهناك باب الصلاة، وباب الإحسان، وباب الصدقة، وباب الجهاد. والمسلم الذي كان يكثر من الصيام يدخل من باب الصيام، وكثير الصلاة يدخل من باب الصلاة.. وهكذا، وهناك أناس يدعون من جميع الأبواب.
وفيه أن صاحب صدقة الوقف يدعى من باب خاص من أبواب الجنة يقال له باب الصدقة كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وفيه أن الصدقة والوقف وسيلة لحصول الأجر والثواب من الله تعالى وتكثيرها، كما أن فيه وسيلة للتكفير عن الذنوب ومحوها.
فالواجب على المسلم شكر النعم، ومن شكرها تخصيص جزء من أمواله وجعله فيما يعود عليهم بالنفع العاجل والآجل. والوقف في حال الصحة والقوة أفضل من الوصية بعد الموت أو حال المرض والاحتضار، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة أن تصدَّق وأنت صحيحٌ شحيحُ، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان كذا»(8).
ومن نعمة الله عز وجل على العبد أن يكون ذا مال، ومن تمام نعمته عليه فيه أن يكون هذا المال عوناً له على طاعة الله، قال صلى الله عليه وسلم: «نعم المال الصالح للمرء الصالح»(9)، وصاحب الوقف يبارك له في ماله كما أخبر النبيصلى الله عليه وسلمبقوله: «ما نقصت صدقة من مال»(10).
والواقف في ظل صدقته يوم القيامة كما في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل امرئ في ظل صدقته، حتى يقضى بين الناس»(11).
وفي الوقف انشراح الصدر، وراحة القلب وطمأنينته، ومعايشة نفعه للجهات الموقوف عليها.
الهوامش:
1- أخرجه البخاري في صحيحه برقم: 1897، ومسلم في صحيحه برقم 1027، وفي صحيح النسائي للألباني برقم 3135، وصحيح الترمذي للألباني برقم 3674.
2- انظر: شرح مسلم للنووي: 7-162، فتح الباري لابن حجر: 7-34.
3- انظر: عمدة القاري، للعيني: 10-264
4- انظر: شرح ابن حجر للبخاري مسألة رقم 3466.
5-كتاب الوقف من مسائل الإمام أحمد بن حنبل، تأليف الإمام أحمد الخلال، دراسة وتحقيق د. عبدالله الزيد (المجلد الأول/28)، دار المعارف الرياض ط1 / 1410 هــ - 1989م.
6 - كتاب الوقف من مسائل الإمام أحمد بن حنبل، تأليف الإمام أحمد الخلال، دراسة وتحقيق د. عبدالله الزيد (المجلد الأول/28)، دار المعارف الرياض ط1 / 1410 هــ - 1989م.
7 - أخرجه البخاري في صحيحه، برقم 7423.
8 - صحيح الجامع، للألباني، برقم 1111.
9 - صحيح الأدب المفرد، للألباني، برقم 229.
10 - أخرجه مسلم في صحيحه، برقم 2588.
11 - صحيح الجامع، للألباني، برقم 4510.
لاتوجد تعليقات