رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 26 سبتمبر، 2011 0 تعليق

الأربعون الوقفية (3)

 

 جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياءا لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، وأعددت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وغيرها، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاما وفوائد جمة عظيمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف والهيئات والمؤسسات برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.

 

       والحديث الثالث، حديث فيه الدلالات والفوائد الكثيرة، وهو كذلك أصل عند أهل العلم في أحكام الوقف، واجتهد الفقهاء في بحث بعض المسائل المتعلقة بالوقف الإسلامي اعتماداً على حديث عثمان رضي الله عنه.   

الحديث الثالث:  الوقف لعامة المسلمين

        عن ثمامة بن حزن القشيري قال: شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان فقال: «أنشدكم بالله وبالإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: «من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟»، فاشتريتها من صلب مالي فجعلت دلوي فيها مع دلاء المسلمين؟»(1).

صلى الله عليه وسلم الحديث قاله عثمان حينما حوصر في داره واجتمع من خرج عليه من الناس وأنكروا فضله، قام فأشرف عليهم، ‏وذكر ما قام به من أعمال خيرية شهد له بها النبي صلى الله عليه وسلم  وأثنى على فعله، وأقر بفضائله من بعده الصحابة رضوان الله عليه .

      وللصحابي الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه مواقفُ عظيمةٌ، تدلُّ على فضله ونُصرته لهذا الدين، فمن ذلك أنه هاجَرَ الهجرتين: الأولى إلى الحبشة، والثانية إلى المدينة، وجهَّز جيش العُسرة، وحفَرَ بئر رُومَة وتصدَّق بها على المسلمين، كما قام بتوسعة المسجد النبوي، وفي عهده جمع القرآن الكريم، وتوسَّعتْ فتوحات المسلمين، ووصلتْ إلى مشارق الأرض ومغاربها، قال الزهري: جهَّز عثمانُ بن عفانَ جيشَ المسلمين في غزوة تبوك بتسعمائة وأربعين بعيرًا وستين فرسًا، قد اشتهر رضي الله عنه بالكرم والإنفاق في سبيل الله .

صلى الله عليه وسلم وعثمان بن عفان  رضي الله عنه  اشترى بئر رومة لما حض النبي صلى الله عليه وسلم  المسلمين على شرائها، على الشرط الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو : «أن يجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة»، ومعنى هذا الشرط: أن يجعلها وقفاً عاماً للناس كافة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، وما بعده من العصور، ما دامت عين البئر قائمة، وأن يشتريها من صلب ماله، ويجعلها مباحة للناس كافة دون تمييز، ولا يمنع الناس من الاستفادة من مائها بعد تملكها.

      فاشتراها عثمان رضي الله عنه من صلب ماله، أي من أصل ماله ورأس ماله، لا مما أثمره المال من الزيادة، وأصل المال عند التجار أعز شيء، وهذا يدل على حرص عثمان في انتفاء المال الذي اشترى به هذا الوقف، قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : «ما ضرَّ عثمانَ ما عمل بعد اليوم» مرتين(2)، واستدل الإمام السندي بقول عثمان ] في وقفه: «من صلب مالي» على أنه يستحب للواقف أن يختار الغالي والنفيس ، ويبتعد عن الحقير الخسيس في الوقف والصدقة؛ لأن عثمان- رضي الله عنه- أخبر أن هذا الوقف من صلب ماله، وصلب المال كما فسره العلماء: «أصل المال وخياره».

      وفي رواية للبغوي من طريق بشر بن الأسلمي عن أبيه: أنها كانت لرجل من بني غفار عين يقال لها: رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال: له النبي [: «تبيعنيها بعين في الجنة؟» فقال يا رسول اللّه، ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان، فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي [ فقال: أتجعل لي ما جعلت له؟ قال «نعم»، قال: قد جعلتها للمسلمين‏(3)،‏ وللنسائي من طريق الأحنف عن عثمان قال: «اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك»(4).

       وبئر رومة من أوائل الأوقاف الخيرية في الإسلام يصل نفعها لعموم المسلمين، ذكر ابن عبد البر أن بئر رومة كانت ركية ليهودي يبيع من مائها للمسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من يشتري رومة فيجعلها للمسلمين، يضرب بدلوه في دلائهم، وله بها مشربة في الجنة؟» . فأتى عثمان اليهودي فساومه بها، فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى عثمان نصفها باثنتي عشر ألف درهم فجعلها للمسلمين، فقال له عثمان: إن شئت جعلت على نصيبي قرنين، وإن شئت فلي يوم ولك يوم، فقال: بل لك يوم ولي يوم، فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلما رأى ذلك اليهودي قال: أفسدت عليّ ركيتي، فاشترى النصف الآخر بثمانية آلاف درهم(5).

      ومن بركة وقف بئر رومة، أنه لا يزال الماء فيها عذبا رقراقا إلى يومنا هذا، ومعروفة عند أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم  ببئر عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهي من أشهر المعالم الوقفية التي بقيت عبر العصور الإسلامية من عهد النبي صلى الله عليه وسلم  إلى عصرنا الحاضر، ويعرفها أهل المدينة جيلاً بعد جيل(6)، ووصفها العديد من العلماء منهم الشيخ العباسي من علماء القرن العاشر بقوله: «قلت: والبئر بجانب مسجد القبلتين، وبقرب البئر بناء يشبه حصنًا منهدمًا، ويقال: إنه كان ديراً لليهود، وفي أطراف هذه البئر آبار أخرى كثيرة، ومزارع، وهي قبلي الجرف وآخر العقيق، وبقربها اجتماع السيول.. وبينها وبين مسجد القبلتين بستان لحاكم المدينة(7) .

       وتحدث أهل العلم عن مسألة انتفاع الواقف بوقفه وفصلوا واشترطوا، فقد شرط «ابن قدامة» لانتفاع الواقف بوقفه أن يكون قد اشترط في الوقف أن ينفق منه على نفسه، قال: «إلا أن يشترط أن يأكل منه، فيكون له مقدار ما يشترط»(8)، وأضاف في المغني: «من وقف شيئا وقفا صحيحاً، فقد صارت منافعه جميعها للموقوف عليه، وزال عن الواقف ملكه، وملك منافعه؛ فلم يجز أن ينتفع بشيء منها، إلا أن يكون قد وقف شيئا للمسلمين، فيدخل في جملتهم، مثل أن يقف مسجداً، فله أن يصلي فيه، أو مقبرة فله الدفن فيها، أو بئرا للمسلمين، فله أن يستقي منها، أو سقاية، أو شيئاً يعم المسلمين، فيكون كأحدهم، لا نعلم في هذا كله خلافا، وقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه سبَّل بئر رومة، وكان دلوه فيها كدلاء المسلمين»(9)، قال ابن خزيمة رحمه الله: «إباحة شرب المحبّس من ماء الآبار التي حبسها»(10) .

       ومن فوائد هذا الحديث: فضل عثمان بن عفان رضي الله عنه ومناقبه، وفيه جواز أن يتحدث الرجل بمناقبه عند الاحتياج إلى ذلك لدفع مضرة أو تحصيل منفعة، وإنما يكره ذلك عند المفاخرة والعجب، وفيه أن الوقف أجر للواقف، ونفع الموقوف عليه في عين الوقف أو غلته، وفيه أن الوقف إذا صح، زال به ملك الواقف عنه، وجواز انتفاع الواقف بوقفه العام‏، وأن يجعل نفسه في وقفه كسائر المسلمين، وفيه أن الوقف الذي جاءت به الشريعة ورغب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم  وفعله أصحابه هو الذي يتقرب به إلى الله عز وجل حتى يكون من الصدقة الجارية التي لا ينقطع عن فاعلها ثوابها.

       وفيه جواز وقف الماء والتصدق به، وهبته وإباحته للعموم مقسوماً كان أم غير مقسوم، وجواز أن يكون ما أوقف عاماً لجميع المسلمين، وأن يشترط لنفسه أن يكون دلوه ضمن دلاء المسلمين، فهذا شرط صحيح لا يؤثر في صحة الوقف العام، قال ابن بطال: «في حديث عثمان أنه يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه إذا شرط ذلك، قال: فلو حبس بئرا على من يشرب منها فله أن يشرب منها، وإن لم يشترط ذلك لأنه داخل في جملة من يشرب»(11)، وفيه جواز الوقف على أناس لا يحصون كثيري العدد.

       وفيه أن بئر رومة كما نص عثمان- رضي الله عنه: «أنه جعلها سقاية للمسلمين»(12)، فتبقى على هذا الشرط ما دامت العين قائمة، وفيه استحباب إثبات الوقف بالوسائل الشرعية المشروعة التي تحفظ عين الوقف من العدوان عليه، فعثمان- رضي الله عنه - أشهد النبي صلى الله عليه وسلم  والصحابة على وقفه عندما أعلن وقفه لبئر رومة سقاية للمسلمين.

       ويستحب لولي الأمر كالملك والسلطان أو نوابهم من مدراء الأوقاف في عصرنا أن يحضوا أهل الغنى على الصدقات الجارية والأوقاف العامة، فالنبي صلى الله عليه وسلم  دعا الصحابة القادرين كافة في عصره إلى شراء بئر رومة من اليهودي، وسمع هذه الدعوة جمع غفير من الصحابة.

        ويستحب لأصحاب الأموال الذين يريدون الوقف أن يختاروا الأوقاف ذات النفع العام الكثير كالدور والآبار التي تبقى دهوراً طويلة، كما فعل عثمان ] في شرائه لبئر رومة التي بقيت من عصر النبي صلى الله عليه وسلم  إلى عصرنا الحاضر(13)، فعلى كل مسلم يود الوقف الاقتداء بالصحابة الكرام في حسن اختيار الوقف وعظم منفعته، وكذلك بذل أفضل المال مما تتعلق به النفس ليكون في سبيل الله تعالى.

     ولقد تتابع المسلمون جيلاً بعد جيل يوقفون الآبار والأراضي والبساتين والدور وأعمال الخير والبر؛ امتثالا واتباعاً لقوله صلى الله عليه وسلم : «خير الناس أنفعهم للناس»(14)، وقوله صلى الله عليه وسلم : «أفضل الصدقة سقي الماء»(15)، مما ملأ الدولة الإسلامية بالمنشآت والمؤسسات التي بلغت حداً من الكثرة يصعب إحصاؤه والإحاطة به. ومنها وقف زبيدة بنت جعفر المنصور، زوجة هارون الرشيد، التي مهّدت طريقاً للحجاج من بغداد إلى مكة، ورصفته في بعض المواضع الوعرة، وأنشأت في هذا الطريق مرافق ومنافع ظل يفيدُ منها حجاج بيت الله الحرام منذ أيامها إلى وقت قريب، وإليها تنسب «عين زبيدة» في مكة، وتلك الآبار المحفورة بين بغداد ومكة والتي يشهد لها التاريخ، وما زالت آثارها قائمة تحكي قصة وقف خفف معاناة الملايين ممن شد الرحال إلى المسجد الحرام لأداء مناسك الحج والعمرة، فما أروع تلك الأوقاف وما قدمته من خدمات جليلة.

- الهوامش:

1 - صحيح النسائي، للألباني، حديث رقم (3610)، وأصله أخرجه البخاري في الشرب والمساقاة، باب: من رأى صدقة الماء معلقا (6/154)، وفي الوصايا برقم (2778)، ونحوه في جامع الترمذي برقم (3666)، باب: في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه.

2 - صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، برقم (3701).

3 - نيل الأوطار، كتاب الوقف (4/313).

4 - صححه الألباني في صحيح النسائي برقم (3609).

5 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبدالبر، ص545، وعنه نقل كل من جاء بعده، وبعض مؤرخي المدينة المنورة، وهذا دون سند، والنصوص الصحيحة لم تذكر فيها قصة اليهودي.

6 - تقع البئر في أسفل وادي العقيق، قريبة من مجتمع الأسيال في براح واسع من الأرض، واليوم نجدها شمال المدينة المنورة وتعرف ببئر عثمان.

7 - عمدة الأخبار ص (265).

8 - انظر المغني (8/191).

9 - المغني، ابن قدامة المقدسي (8/191).

10 - صحيح ابن خزيمة (4/121).

11 - انظر فتح الباري، كتاب المساقاة، باب: من رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة (6/155).

12 - من حديث النسائي: أن رسول الله [ قال: «من يبتاع بئر رومة غفر الله له؟»، فأتيت رسول الله [ فقلت: قد ابتعت بئر رومة، قال: «فاجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك»، سنن النسائي (6/233 - 134)، كتاب وقف المساجد رقم (3606)، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه.

13 - انظر بحثا بعنوان: بئر رومة، وقف الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه، د. عبدالله بن محمد الحجيلي، مجلة مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة، رمضان 1425هـ.

14 - أخرجه السيوطي في الجامع الصغير، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (426).

15 - صحيح الجامع برقم (1113).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك