رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 30 أبريل، 2012 0 تعليق

الأربعون الوقفية (29)

 

جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله؛ وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها.

أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا .

 

 

الحديث التاسع والعشرون

الوقف يولج الجنة

       عن جعفر بن محمد عن أبيه: « أن علي ابن أبي طالب، قطع له عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يَنْبُعَ، ثم اشترى علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى قطيعة عمر رضي الله عنه أشياء، فحفر فيها عيناً، فبينما هم يعملون فيها، إذ تفجر عليهم مثل عُنُقِ الجَزُور من الماء، فأُتى علي، وبُشِّرَ بذلك، قال: بَشِّر الوارث، ثم تصدق بها على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وابن السبيل، القريب والبعيد، وفي السلم، وفي الحرب، ليوم تبيض وجوه، وتسود وجوه، ليصرف الله بها وجهي عن النار، ويصرف النار عن وجهي».

       الصحابة الكرام رضوان الله عليهم كانوا أحرص الناس على فعل الخير، وأسرعهم إليه، وحرصوا كذلك على معرفة أفضل أبوابه، وحينما علموا أن الوقف مما يدوم نفعه ويستمر أجره، تنافس وأوقف الصحابة الكرام، ومنهم : أبو بكر، وعمر، وعلي، وسعد، والزبير، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وحكيم بن حزام، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك وغيرهم، رضي الله عنهم. 

       فالوقف من الصدقات المندوبة، غير أنه أفضلها وأدومها وأعمها؛ لهذا كان اختيارهم للوقف عملاً صالحاً، فهو باب عظيم من أبواب التعاون على البر والتقوى، ففيه يعين الناس بعضهم بعضاً على البر والتقوى، والوقف صدقة ليست بواجبة، وإنما يتطوع بها المسلم ويبذلها لوجه الله تعالى، فالوقف سنة مستحبة، ولا سيما مع حاجة الناس إليها .

       والحديث فيه خبر وقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحُسن إكرام عمر رضي الله لآل رسول الله[، فقد أقطع عمر ابن الخطاب عليًا رضي الله عنهما أرضاً بينبع. وحينما طلب على رضي الله عنه من بعض عماله حفر بئر في أرضه بينبع، والتي تعرف بكثرة مائها، فبينما هم يحفرون، وإذا بالماء يتفجر من الأرض عيناً جارية، وجاءه مخبر فأخبره أنه قد نبع في بستانه عين متدفقة مثل عنق الجزور من الماء، أي كعنق البعير من الماء، والجزور هو اسم لما يذبح من الإبل خاصة، فقال: «بشر الوارث» :أي بشر الفقراء الذين يرثون الاستفادة من هذه الأرض، فالمراد بالوارث من أوقفها عليه.

       وأوقف -رضي الله عنه- أرضه بينبع على ستة أصناف، وهم: الفقراء، والمساكين، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والقريب، والبعيد، وفي حالتين: حال السلم، وحال الحرب للفتوحات ورد المعتدين، وللمرابطين في الثغور، راجياً الثواب والمغفرة، وأن تكون له تلك الصدقة ذخراً ليوم تبيض وجوه، وتسود وجوه، من أجل أن يقي الله بها وجهه -رضي الله عنه- عن النار، ويصرف النار عن وجهه.

       ثم كتب بوقفه كتاباً، وأحضر شهودا فأشهدهم على ما كتب، وفيه: «هذا ما أمر به علي بن أبي طالب وقضى في ماله: إني تصدقت بينبع ووادي القرى والأذينة وراعة في سبيل الله ووجهه، أبتغي مرضاة الله، يُنفق منها في كل منفعة في سبيل الله ووجهه، وفي الحرب والسلم والجنود وذوي الرحم القريب والبعيد، لا يُباع ولا يوهب ولا يورث حيًا أنا أو ميتًا، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، ولا أبتغي إلا الله عز وجل، فإنه يقبلها وهو يرثها وهو خير الوارثين، فذلك الذي قضيت فيها بيني وبين الله عز وجل».

       وكان من حرص الصحابة رضي الله عنهم على رعاية أوقافهم، أن تولوا نظارة أوقافهم في حياتهم، ومنهم علي رضي الله عنه، فقد كان ناظراً لوقفه حتى وفاته، وهذا ما أخبرنا به الشافعي، رحمه الله، حيث قال: «ولم يزل علي رضي الله عنه يلي صدقته - بينبع - حتى لقي الله تعالى».

       ووقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه من جملة وقوفات الصحابة -رضوان الله عليهم-، فقد حرص الصحابة على الوقف، وكانوا يتخيرون لأوقافهم أثمن وأنفس ما يملكون؛ لأنهم أرادوا أن يعمروا آخرتهم، بما يحبون من نفائس أموالهم وكرائمها، وكانوا -رضي الله عنهم- إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى.

       وفي وقوفات الصحابة، روى الخصاف في أحكام الأوقاف عن محمد بن عبد الرحمن عن أسعد بن زراة قال: «ما أعلم أحداً من أصحاب رسول الله[ من أهل بدر من المهاجرين والأنصار إلا وقد وقف من ماله حبساً، لا يشترى، ولا يورث ولا يوهب، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأكد ذلك القرطبي بقوله: «إن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص والزبير وجابراً كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة».

       وللحديث فوائد ودلالات: ففيه حرص الصحابة الكرام رضوان الله عليهم على توجيه الهمة إلى الدار الآخرة وثوابها، وفيه أن تحبيس الأموال في سبيل اللّه هو شكر للمنعم جل جلاله، واعتراف بنعمته وفضله، ودليل لصحة إيمان مؤديها وتصديقه، وفيه سرعة شكر الله المنعم المتفضل بنعمه، وفيه أن شكر نعمة المال يكون بالإنفاق منه.

       وفيه أن الوقف والتحبيس والتسبيل بمعنى واحد وهو المنع من التصرف، وفيه أن  وقوفات الصحابة كثيرة جداً، ومنها وقف علي -رضي الله عنه- أرضه بينبع، وفيه فضيلة من فضائل علي -رضي الله عنه- الجمة وسخاؤه، وصدق إيمانه، وفيه دلالة على حُسن العلاقة بين الخليفتين عمر وعلي رضي الله عنهما، وبين الآل والأصحاب.

       وفيه الحرص على أن يكون ريع الوقف لأناس هم بأمس الحاجة للعون والمساندة وتخفيف آلامهم وعوزهم، وفيه حرص الصحابة الكرام على الصرف في سبيل الله ففيه نشر الإسلام وعز المسلمين وحفظ كرامتهم وأوطانهم، وفيه جواز تحدث الإنسان بنعم الله تعالى عليه وفضله على عبده، وفيه أن العمل الصالح والصدقة والوقف توفيق من الله تعالى، وفيه حث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة دون كسل أو تأخير أو تسويف.  

       فالوقف صورة من صور الصدقات، وهو في أصله صدقة، ينال بها واقفها أجر المتصدق، وينال بها أجر الصدقة الجارية، التي يستمر ثوابها ما دام نفعها، فيحوز بذلك الأجرين، ومعه يمتد العمل ويمتد الأجر، وهذا من فضل الله تعالى وعطائه على عباده، أن شرع لهم من الصدقات، ما يحبس أصلها ويستمر نفعها، لتكون صدقة جارية، ينال أجرها ما دام نفعها، مما يحقق مصالح العباد في حال الحياة وبعد الممات. وأنواع الوقوف متعددة، ومصارفها ولمن تحبس لهم كثيرة أيضاً، وكلما كان الوقف أعم وأكثر نفعاً كان أفضل.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك