رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 17 أبريل، 2012 0 تعليق

الأربعون الوقفية (27)

جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.

 

 

 

 

الحديث السابع والعشرون:

الوقف دواء لصاحبه

عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حفر بئر ماء لم يشرب منه كبدٌ حرَّى من جن ولا إنس، ولا طائر إلا أجره الله يوم القيامة».

      من رحمة الله بعباده أن شرع لهم الوقف، استثماراً للمال في دنياهم لآخرتهم،  والموفق من وفق لهذا النهر العظيم من الحسنات الجارية، والمحروم من حرم هذا الخير الجزيل، فمعه لا تُطوى صحائف الأعمال، بانتهاء آخر صفحات الحياة، بل تزداد فيها الحسنات أضعافا مضاعفة.   

       فالوقف عمل تقدمه في حياتك، يستمر أجره إلى يوم الدين، فهو صاحب لا يمكر، ومعين لا يغدر، صديق يلازمك في حياتك، ولا يتخلَّى عنك عند موتك، يلحق بك في قبرك، ويتبعك في يوم نشرك وحشرك، عمل صالح ممدود لا يفارقك،  فهو من عملك الذي لا ينقطع أجره ما دام نفعه.

      يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعظم شأن حفر الآبار وسقي الماء لمن يحتاجه، وبذله في سبيل الله، وتسبيله للناس حتى يستفيدوا منه، فهو مادة الحياة، وبه حياة المخلوقات؛ وأن حفر الآبار لسقيا الناس، أو لسقيا الدواب، من الصدقات الجارية التي يستمر بها الأجر والثواب ما دام النفع حاصلاً.

       وفي الحديث أن من حفر بئر ماء، مخلصاً لله تعالى، فكل من شرب منه وانتفع به حي من الأحياء على ظمأ، «كبد حرى»: أي كبد عطشى، من الإنس والجن، ومن الطير وغيره، إلا كان له الأجر العظيم من الله تعالى، ويجد هذا الأجر يوم القيامة وقد سجلت الحسنات في صحائفه.

وسقي الماء وحفر الآبار من أفضل الصدقات؛ لقوله: «أفضل الصدقة سقي الماء».

وعن سعد بن عبادة، رضي الله عنه قال: «قلت يا رسول الله! إن أمي ماتت، فأي الصدقة أفضل؟ قال: «الماء» فحفر بئرًا وقال: هذه لأم سعد.

        وحفر الآبار وسقي الماء وتوفير برادات الماء في المساجد والأسواق، وأماكن تجمع الناس، خاصة في الدول الحارة، لا يكلف من المال الكثير، وأجره عظيم منة ورحمة من الله بعباده، ولعلها تكون تلك الصدقة الجارية إن كانت خالصة لله تعالى ظلا للمتصدق يوم القيامة، كما في حديث عقبة ابن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل امرئ في ظل صدقته، حتى يقضى بين الناس».

        وهذا الفضل والحث على حفر الآبار وحبس الماء أسهم في توافر الأمن المائي للمسلمين منذ بداية نشأة الدولة الإسلامية في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد شاع الوقف لهذا الوجه من البر في سائر أنحاء العالم الإسلامي، لعظم فضلها وثوابها، بدءاً من حض النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على شراء بئر رومة، فاشتراه عثمان رضي الله عنه والتزم الشرط الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو: «أن يجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين»، أي أن يجعله وقفاً عاماً للناس كافة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، وما بعده من العصور. وحفر سعد بن عبادة رضي الله عنه بئراً وأوقفه، وكذلك علي رضي الله عنه حفر بئراً في أرضه ينبع وأوقفها والبئر معها وغيرهم الكثير من الصحابة الذين حرصوا كل الحرص على وقف الآبار وسقي الماء وتوفيره لابن السبيل، وأسهم نظام الوقف كذلك في انتشار الأسبلة، التي ترى آثارها إلى الآن في حاضرة العالم الإسلامي، والتي تمثل روعة معمارية ووفرت مياه الشرب في الشوارع والطرق. 

        ومن سقي الماء في عصرنا الذي نعيش توفير محطات لتحلية الماء للأسبلة، فالكثير من الدول العربية والإسلامية تعاني ارتفاع نسبة الملوحة في الماء، وتلوثه مما يؤدي إلى أمراض خطيرة كالفشل الكلوي، وأمراض السرطان وغيره، حتى إن بعض مزارع الحيوانات منعت من استعمال هذه المياه، وميسور الحال يستخدم المياه المعالجة والصالحة للشرب، أما الكثير من الفقراء فإنه لا يستطيع شراء الماء النقي؛ لذا قامت بعض المؤسسات الخيرية بطرح مشروع وحدات التحلية بسعات مختلفة، لتوفير المياه الصالحة للفقراء وأهل العوز، وذلك كمجال من مجالات الصدقة الجارية لمدهم  بما يحتاجونه من المياه الصالحة للشرب،. وهو من المشاريع الناجحة والتي تم تنفيذها، وحققت نفعها في سقي الماء. 

        والصدقة لها تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء من المرض وغيره، وهذا أمر معلوم عند من جربه، والصدقة الجارية بنية الشفاء دواء للأمراض البدنية كما في قوله صلى الله عليه وسلم : «داووا مرضاكم بالصدقة»، يقول ابن شقيق: « سمعت ابن المبارك وسأله رجل: يا أبا عبد الرحمن قرحةٌ خرجت في ركبتي منذ سبع سنين، وقد عالجتُ بأنواع العلاج، وسألت الأطباء فلم أنتفع به، فقال: اذهب فانظر موضعاً يحتاج الناس فيه الماء فاحفر هناك بئراً؛ فإني أرجو أن ينبع هناك عينٌ ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ».

        وفي الوقف واختيار الأنفع منه، تخلق بأخلاق الكرماء الفضلاء، وتلمس لحاجة أهل العوز، قال ابن القيم رحمه الله: «وقد دل النقل والعقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أن التقرب إلى الله رب العالمين، وطلب مرضاته، والبر والإحسان إلى خلقه، من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأضدادها من أكبر الأسباب لكل شر، فما استجلبت نعم الله تعالى واستدفعت نقمه بمثل طاعته، والتقرب إليه والإحسان إلى خلقه».

        ومن فوائد الحديث: فيه حض على حفر الآبار، وسقي الماء وحبسه، لمنفعة الإنسان وما دونه من الحيوان والنبات، وفيه الحث على الرفق بالحيوان، ورحمته، والإحسان إلى كل طير وحيوان حي بسقيه ونحوه، وفيه أن في سقي البهائم والإحسان إليها أجراً، وفيه الحث على الإحسان إلى الأحياء بالطعام والشراب.

وفيه عظيم فضل الله وسعة رحمته، فهو يعطي العطاء الجزيل على العمل القليل.

        وفيه أن الإنسان يؤجر على إحسانه للإنس والجن، وفيه أن سقي الماء من أعظم القربات عند الله تعالى، وذلك لشدة حاجة الناس إلى الماء، وعدم استغنائهم عنه، فالإحسان في بذل الماء لمن يحتاج إلى شربه، وتمكينه منه فعل عظيم، وله ثواب جزيل.  وفيه حث للواقفين والمتصدقين ونظار والجهات المشرفة،  على حسن رعاية الأوقاف، والحرص على استمرار عطائها ونفعها؛  لأن أجر الوقف يستمر ما دام ينتفع به.

       ومن علامات التوفيق للعبد أن يفتح على يديه من الخير ما يوفر للناس مشربهم ومطعمهم، في أماكن هم بأمس الحاجة فيها للماء، وقد تعددت مجالات سقي الماء، وتيسَّرت كثير من الأسباب المعينة على توفيره، فلا تحقرن من الخير شيئاً، فرب شربة ماء يبل بها الظمآن غلته، لا تكلف الكثير  تنال بها الأجر العظيم ويدفع بها عنك البلاء، ويجيرك بها من سوء القضاء. 

      والوقف من أسباب انشراح الصدر، وقد لمست هذا من جُلَ المتبرعين الذين أنشأوا الأوقاف، فكانت سعادتهم كبيرة في التواصل مع الجهة المشرفة على مشروعهم الوقفي، ولمست فيهم الارتياح والرضا النفسي الكبير، خاصة عند زيارة المشاريع، وبذلهم للأسباب ليدوم النفع والعطاء لوقفهم.

       وجدتهم كذلك حريصين كل الحرص كلما أنجز لهم وقف أن يكون لهم مشروع وقفي آخر، وبعضهم يصرح: بأنني لمست بعد هذا الوقف البركة في نفسي، ومالي وأولادي، وأهلي. وآخرون قالوا: كلما انتهينا من مشروع وقفي تضاعفت أرباح تجارتنا وبورك لنا في أعمالنا وصحتنا وأبنائنا؛ فالسعادة الحاصلة في الصدقة الجارية لا ينالها إلا من جربها، فلا تحرم نفسك يا مسلم من هذه السعادة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك