رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 10 أبريل، 2012 0 تعليق

الأربعون الوقفية (26)

 


جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية، وينفع به قولاً وعملا، ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.

الحديث السادس والعشرون:

بناء المساجد صدقة جارية

       عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجداً، يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتا في الجنة(1).  وفي رواية: «بنى الله له مثلَه في الجنة»(2).

       فضل الله سبحانه وتعالى بعض الأماكن على بعض، ومن تلك الأماكن التي فضلها الله عز وجل على غيرها المساجد، قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}(3)، والعمارة المراد بها إقامة البناء وتشييده، وتلك من علامات الإيمان بالله والخشية والهداية.

       يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث بفضل بناء المساجد، فمن بنى مسجداً لله تعالى، كبيراً كان أم صغيراً، لا يريد به رياء ولا سمعة، مخلصاً عمله لله وحده، طالباً رضا الله ومغفرته، بنى الله له بيتا في الجنة.

         فقد حث رسول الله  صلى الله عليه وسلم وحض على بناء المساجد، ووعد مشيديها بالثواب الجزيل والأجر العظيم؛ لمكانتها في الإسلام، وحاجة المسلمين إليها في سائر البلاد والأزمان، وهذا الأجر العظيم والثواب الجزيل مشروط بشرطين كسائر الطاعات: الأول: أن يكون خالصاً لله تعالى ويبتغي به وجه الله عز وجل، والثاني: أن يكون موافقاً للشرع الذي أمر الله تعالى.

- والبخاري زاد في رواية: «بنى الله له مثله في الجنة»، والمماثلة الواردة في الحديث جاءت لإيضاح أن الجزاء من جنس العمل، فهي تعني المثلية في الكم لا في الكيف؛ لأن موضع شبر في الجنة خير من الدنيا وما فيها، كما صرح بذلك الخبر عن الصادق المصدوق  صلى الله عليه وسلم ، قال النووي: «يحتمل قوله صلى الله عليه وسلم أمرين: أحدهما أن يكون مثله، معناه: بنى الله له مثله في مسمى البيت، وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها فإنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والثاني: معناه أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا»(4). وقال الألباني: «أي مثله في الشرف والفضل والتوقير؛ لأنه جزاء المسجد، فيكون مثلاً له في صفات الشرف»(5).

       وترغيباً في بناء المساجد في الأمكنة المحتاجة إليها ولو كانت صغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من بنى مسجداً قدر مفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة» (6). ومفحص القطاة(7): موضعها الذي تجثم فيه وتبيض، والقطاة طائر من أنواع الحمام، كأنها تفحص عنه التراب أي تكشفه، والفحص: البحث والكشف. وخص القطاة بهذا لأنها لا تبيض في شجرة ولا على رأس جبل إنما تجعل مجثمها على بسيط الأرض دون سائر الطير، فلذلك شبه به المسجد؛ ولأنها توصف بالصدق، ففيه إشارة إلى اعتبار إخلاص النية وصدقها في البناء(8). ومعلوم أن مفحص القطاة مكان صغير جدًا، لا يمكن بحال أن يتسع لمصل، فدل على أن أيّ تبرع يُسهم في بناء مسجد موعودٌ صاحبه بأجر عظيم. 

         وللمساجد مكانة عظيمة في الإسلام، فهي بيوت الله عز وجل، وقد أضافها الله عز وجل إلى نفسه إضافة تعظيم وتشريف، فقال: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً}(الجن-18)، وهي أحب البقاع إليه، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحب البلاد إلى الله مساجِدُها»(9).

        والمسجد قاعدة أساسية تنبعث منها الدعوة الإسلامية، ورسالته هي رسالة الإسلام، رسالة التوحيد والهداية والاعتصام بحبل الله تعالى، فهو مكان إعلان العبودية الخالصة لله عز وجل، وهو مكان أداء الصلاة التي هي عماد الدين، وفيه  تُعقد ألوية الحرب، ومنه تنطلق قوافل الفاتحين، وفيه تعقد حلقات العلم لشرح أصول الدين وفقهه، فعن أبي هريرة  رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده»(10). وكذلك كانت المساجد في عهودها الزاهرة جامعات علم ومنابر هدى ومراكز إشعاع في عواصم العالم ومدنه الكبرى مثل المدينة، ومكة، وبغداد، ودمشق، والقاهرة، والقيروان، وغيرها.

        وأهمية المسجد لا تقتصر على كونه مكاناً لأداء الصلوات فحسب، بل هو أهم مكان للمجتمع الإسلامي فهو يؤدي دوراً اجتماعياً بارزاً لمساعدة المجتمع في النهوض بأعبائه الاجتماعية، وعمارة المساجد تكون إما حسية أو معنوية، فعمارتها الحسية تكون بالبناء والترميم والصيانة، وتوفير ما تحتاج إليه من خدمات، والعمارة المعنوية تكون بالصلاة وحلقات تحفيظ القرآن الكريم والمحاضرات والدعاء والدروس العلمية.

          ولا أدلّ على تلك الأهمية من فِعله صلى الله عليه وسلم حين وطئت قدماه الشريفتان دار هجرته المدينة، فكان أول عمل قام به صلى الله عليه وسلم هو بناء مسجده الذي أسس على التقوى من أول يوم، فكان المسجد هو الركيزة الأولى واللبنة الأساس في تكوين المجتمع المسلم، حيث لم يكن مقصورا على إقامة الصلوات والدروس العلمية، بل ملتقى المسلمين، ومنطلق دعوتهم، ومركز توجيه الجيوش.

        وقد أمر الشارع ببناء المساجد وبتشييدها وتعميرها، ولكنه نهى عن المبالغة في زخرفتها، فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد»؛ لأنها بنيت لذكر الله؛ ولإقامة الصلاة، ولتعليم الناس أمور دينهم، ولهذا لابد أن تصان من بعض الأمور التي لا تليق ولا تناسب الأغراض التي بنيت المساجد من أجلها؛ فلا يُقبَر في المسجد أحد، لا أمام القبلة ولا في الجهات الأخرى، مهما كان الموصي بذلك، فلا تنفذ وصيته، ولو كان الذي بناه، لنهي رسول الله  صلى الله عليه وسلم عن ذلك: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(11)، وقال: «إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد»(12).

          ومن فوائد الحديث: فيه دلالة على أن الأجر المذكور يحصل ببناء المسجد، لا أن يجعل الأرض مسجدا من غير بناء، وأنه لا يكفي في ذلك تحويطه من غير حصول مسمى البناء، والتنكير في «مسجد» للشيوع فيدخل فيه الكبير والصغير(13)، وفيه أن كل من اشترك في بناء مسجد، وساهم في حصة ولو قدر موضع سجود، فله الأجر العظيم من الله تعالى. 

         وفيه حث وترغيب في بناء المساجد في الأمصار والقرى، والمحال ونحوها بحسب الحاجة، وفيه أن العمل بلا إخلاص لا نفع فيه، فالذي يبني المساجد  للرياء والسمعة والمباهاة ليس بانيا لله، فلا يناله الأجر الوارد في الحديث، يقول ابن حجر في الفتح: «وفيه إشارة إِلى دخول فاعل ذلك الجنَّةَ؛ إذ المقصود بالبناء له أن يسكنهُ، وهو لا يسكنهُ إلا بعد الدخول، ولا يحصل له هذا الوعد المخصوص بدخول الجنة لمن بناه بالأجرة لعدم الإخلاص، وإن كان يؤجر بالجملة»(14).

        ووقف المساجد لا يحتاج إلى طول سنين ليحقق غاياته، فمنذ أن يؤذن فيه للصلاة، وإلى ما شاء الله من السنين، يحقق مقاصده ويقدم وظيفته العبادية والتعليمية والدعوية والاجتماعية، وتعود بالمصالح على العباد لدنياهم وأخراهم، فالمسجد ليس حصراً على كبير دون صغير، ولا لغني دون الفقير، ولا لعرق دون غيره.

        ووقف المساجد أمر قد يسره الله لكل من أخلص النية في بناء المساجد، وهذا أمر محسوس وملموس(15)، ومساهمات الخيرين حتى في الدول الفقيرة تجعل تكلفة بناء المساجد أقل من المنشآت التي في مساحته، ولو تعذر على المتبرع إكمال بناء مسجده، فإنه لا يبقى معلقاً، فيكمل المسجد ويصلى فيه من مساهمات أهل الحي ومن حولهم. 

الهوامش

1 - أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل بناء المساجد والحث عليها، برقم:  533.

2 - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب من بنى مسجداً، برقم 450. ومسلم في صحيحه برقم: 533. ولفظه: «من بنى مسجداً لله بنى الله له في الجنة مثله».

3 - سورة التوبة، الآية 18.

4 - صحيح مسلم بشرح النووي، ( 3/13).

5 - صحيح الترغيب والترهيب، ( 1/227).

6 - رواه البزار – واللفظ له – والطبراني في الصغير، وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 269 ( 1/227).

7 - مفحص قطاة: هو الموضع الذي تفحص التراب عنه، أي تكشفه وتنحيه لتبيض فيه، أنظر المصباح المنير: ص 176.

8 - أنظر: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، محمد بن أحمد بن سالم السفاريني،  (2/239).

9 - أخرجه مسلم في صحيحه، برقم 671. 

10 - أخرجه مسلم في صحيحه، برقم2699. 

11 - أخرجه البخاري في صحيحه، برقم: 1390، ومسلم في صحيحه، برقم: 529.

12 - أخرجه أحمد في مسنده، وصححه الألباني في أحكام الجنائز، برقم 278.

13 - انظر: نيل الأوطار باب فضل من بنى مسجداً، ج2/626.

14 - انظر: فتح الباري، (2/194-195). 

15 - وذلك خلال عملي في القطاع الخيري، فإن المسجد أسرع المشاريع إنجازا، والجميع يحرص على أن تكون له مساهمة فيه، وهذا مشاهد.   

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك