رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 26 مارس، 2012 0 تعليق

الأربعون الوقفية (24)

 

جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاما وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.

 

الحديث الرابع والعشرون :

الوقف تجارة رابحة 

      قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «لما نزلت {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، قال أبوالدحداح الأنصاري: يا رسول الله، وإن الله عز وجل ليريد منا القرض قال : «نعم يا أبا الدحداح» قال أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي - قال ابن مسعود - وحائط له فيه ستمئة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها قال: فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل». 

        وفي رواية أخرى عن زيد بن أسلم قال: «لما نزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}، جاء أبو الدحداح الأنصاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، ألا أرى ربنا يستقرضنا؟ إنما أعطانا لأنفسنا! وإن لي أرضين: إحداهما بالعالية، والأخرى بالسافلة، وإني قد جعلت خيرهما صدقة، قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم  يقول: «كم من عذق مذلل لأبي الدحداح في الجنة».

       وأبو الدحداح رضي الله عنه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين سارعوا إلى البذل والإنفاق في سبيل الله تعالى، بعد ما علموا أن ما عندهم ينفد وما عند الله باق،  وتيقنوا أن من في الدنيا ضيف، وما في يده عارية والضيف مرتحل والعارية مؤداة، فكان مثالاً يحتذى في التضحية والفداء، عرف بين الصحابة بصاحب التجارة الرابحة.

        لما نزلت هذه الآية والتي فيها الحث على الصدقة وإنفاق المال في سبيل الله ونصرة الدين، وعلى الفقراء والمحتاجين والتوسعة عليهم، بادر أبو الدحداح رضي الله عنه إلى التصدق ببستانه ابتغاء ثواب ربه، وهو على يقين بأن ذلك لا يضيع عند الله تعالى، بل يردّ الثواب مضاعفاً إلى سبعمئة ضعف وأكثر، وتكون تلك الصدقة مفتاحاً للجنة. 

      لقد عرف المسلمون معنى الآية، ووثقوا بثواب الله ووعده، فبادروا إلى الصدقات، لقد كان لأبي الدحداح بستانان مثمران، وقد جعل خيرهما صدقة لله تعالى، فجاء إلى أفضل بستان يملكه واسمه الجنينة، وطلب من أم الدحداح أن تخرج منه، فقد جعله صدقة جارية لله تعالى؛ فأبقى بستانا لدنياه، وجعل الآخر لأخراه.

       وهذا من توفيق الله تعالى لأبي الدحداح أن يُسر له هذا الأمر العظيم،  وهذا لم يتيسر لأناس كُثر، فالخير توفيق من الله تعالى، والوقف فضل من الله على عباده، فيا فوز من وفق إلى عمل الخير، ويا حسرة من جمع المال والعقار والمراكب والبساتين، ومضى من الدنيا بعد أن عمر فيها متاعه، إلى آخرةٍ خربها ولم يستثمر بها شيئاً يذكر من صدقة أو عمل ينفعه.

       وفي مسلم أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «كم من عِذْقٍ معلق (أو مدلى) في الجنة لأبي الدحداح». وفي السنن الكبرى للبيهقي: «قتل ابن الدحداحة شهيدا يوم أحد، فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : «رب عذق مذلل لابن الدحداحة في الجنة».

       وهكذا كان أبوالدحداح من المسارعين في الخيرات، المتسابقين في الباقيات الصالحات. وقد كان كذلك من الفرسان الشجعان، قاتل في أحد حتى أصيب إصاباتٍ بالغة، وبقي شجاعاً مقداماً، حتى آخر أنفاسه يدافع عن الإسلام والمسلمين.

        لقد أعطى أبو الدحداح درسين لمن بعده؛ الأول : في الجود والسخاء ، والبذل والعطاء. والثاني: في الثبات في مواقف الفتنة والبلاء، وعدم النكوص، فقد قدم أنفس أمواله لله تعالى، وقدم نفسه في سبيل الله، فرضي الله عنه وأرضاه. 

        مات أبوالدحداح ولكن ذكره وعمله استمر إلى يوم الدين، وصدقته ستبقى دافعاً للأمة  للبذل والعطاء، فالموفق من وفق للخير، والتعيس الذي عطل يديه عن البذل والعطاء وفعل الخيرات، وصدق الشاعر:

وما المال والأهلون إلا وديعة

                                        ولا بد يوما أن ترد الودائع

      فوائد من الحديث : فيه أن الوقف كان يطلق عليه في عهد الصحابة مسمى الصدقة، والصدقة الجارية في أصلها صدقة، ولكن جعلت في عين تحبس ليستمر نفعها وأجرها.

        وفيه أن الصحابة رضوان الله عليهم امتازوا بسرعة الاستجابة لأمر الله تعالى، وكانوا مثالاً للسخاء والعطاء، وكانوا يختارون أجود أموالهم وأنفسها لتكون صدقة ووقفاً لله تعالى .

وفيه أن الصحابة كانوا يبذلون الخير والسعادة تملأ قلوبهم بوعد الله لهم الأجر العظيم، ولا يتبعون ذلك الإنفاق مناً ولا أذى.

        وفيه حُسن مناداة الزوج لزوجته، وحسن الإجابة منها،  فمن أحسن اللفظ فتحت له الآذان، وفيه حسن تربية الصحابة لزوجاتهم، وثقت زوجاتهم في فعل أزوجاهن، وتربيتهن على المشاركة في الأجر، وفيه جواز إعلان الصدقة وإشهارها والإشهاد عليها.   

           فالخير في الأمة لا ينقطع، وقد رأيت خلال زيارتي لبعض المؤسسات الوقفية في إسطنبول – تركيا، صيف عام ( 1432هـ-2011م ) ، وقفاً مكوناً من ثماني فلل في غاية الجمال، في موقع يندر أن تجد له مثيلا في الدنيا، أعدها مالكها لتكون مسكناً له ولأبنائه، وحكى لي المقربون من الواقف قصة هذا الوقف، فالواقف رجل ميسور الحال، وقبل أن يستلم مفاتيح مسكنه الجديد بأيام، قدر الله تبارك وتعالى أن يستمع ذلك الرجل إلى موعظة بليغة عن فضل الصدقة الجارية، وإذا به يطلب من أحد أبنائه أن يحضر له الموثق الشرعي في ساعة متأخرة من الليل، وامتثل الابن وأحضر الموثق مستغرباً، وإذا به يكتب وثيقة الوقف لتلك البنايات ويُشهد عليها الشهود. وحينما سئل: لماذا لم تنتظر الصباح،  فأجاب: خشيت أن يتغلبني الشيطان من المساء إلى الصباح، وأرجع عن صدقتي، فأردت أن أمضيها قبل أن أنام، ووقفه الآن من المدارس العجيبة والرائعة التي  تتبع فيها أحدث النظم التعليمية، وحققت نتائج وجوائز على المستويين المحلي والعالمي؛ فالوقف يقطع مداخل الشيطان والهوى عن الرجوع في الصدقة.

         وثقافة الوقف في تركيا من الموروثات التي انتقلت من جيل إلى جيل ، وقد كتب محمد الفاتح – رحمه الله - في وثيقة وقفياته: بأنه قد أوقف ذلك الوقف من ماله الخاص الذي اكتسبه بفضل من الله تعالى ثم عرق جبينه. وكان محمد الفاتح حتى عندما يحاصر دولة ما، أو ينتظر الإمداد لفتحها، يأمر جنوده بشق الطرق وحفر الآبار ويقيم فيها الأوقاف، وحينما يسأل عن ذلك الفعل، فكان يقول: نحن مأمورون بإعمار الأرض.

         وكتب أحدهم من الغرب عندما درس أوقاف تركيا، فقال : إن الإسلام جعل من الأتراك أكثر متصدقين في العالم؛ ففي العهود الإسلامية أنشئت أوقاف خلدها التاريخ، حققت مقاصدها، وكانت روائع وثقها التاريخ، وما خطه الرحالة في كتبهم، والتراجم في كتب السير، أرشدنا إلى أوقاف لم تكن في الحسبان، فقد خصص في أوج حضارتنا وقف لكل مطلب وحاجة، ووراء كل وقف دافع وحكاية، فالوقف دلالة على أن هناك واقفا، وموقوفا عليه (الجهة التي ستستفيد من الوقف أو ريعه) ، ووقفا (عقارا أو بستانا أو كتابا ...) ، ووثيقة وقف (حدد فيها الواقف شروطه) . وناظرا يرعى الوقف، وأحياناً مجلسا للنظارة، وعاملين في الوقف، ومنتفعين منه. 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك