رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 13 فبراير، 2012 0 تعليق

الأربعون الوقفية (19)

 

جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله؛ وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملاً, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا .

 

        والحديث التاسع عشر، بيان للأمة من رسولها الأمين صلى الله عليه وسلم أن المال الذي ينسب لك حقيقة هو ما قدمته ليكون ذخراً لك بعد موتك، وليس مالك ما جمعته فاقتسمه الورثة بعدك، فاعمل على أن تدخر لنفسك في دنياك لتجده أمامك في آخرتك. 

الحديث التاسع عشر

الوقف هو المال الحقيقي

       عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال النبي 

صلى الله عليه وسلم 

: «أيُّكُمْ مالُ وارثِهِ أحبُّ إليهِ مِنْ مالِهِ؟» قالوا: يا رسولَ الله، ما منَّا أحدٌ إلا مالُهُ أحبُّ إليْهِ، قال: «فإنَّ مالَهُ مَا قدَّم ومَالُ وارثِه ما أخَّر».

- في الحديث : «أيكم مال وارثه أحبُّ إليه من ماله؟»، سؤال طرحه النبي 

صلى الله عليه وسلم 

على الصحابة، فقالوا رضوان الله عليهم: «ما منا أحدٌ إلا ماله أحبُّ إليه»، فمال العبد في الحقيقة هو ما قدم لنفسه ليكون له ذخراً بعد موته، وليس ماله ما جمع فاقتسمه الورثة بعده، فالذي يخلفه الإنسان من المال وإن كان منسوباً إليه، فإنه بانتقاله إلى وارثه يكون منسوباً للوارث.

      النبي

صلى الله عليه وسلم

يسأل صحابته سؤالاً فيه تمهيد لما بعده، مع علمه أن كل إنسان ماله أحب إليه من مال وارثه، لكنه أراد أن يكون ذلك مدخلاً ليخبرهم بالمال الحق الذي ينفعهم.  فكان جوابهم : «ما منا من أحد مال وارثه أحب إليه من ماله» فلما تقرر هذا منهم -بما النافية- بأفواههم، قال 

صلى الله عليه وسلم 

: «فإن ماله - أي الحق – ما قدم ومال وارثه ما أخر». 

      وفي فتح الباري، «فإن ماله ما قدم»: أي هو الذي يضاف إليه في الحياة وبعد الموت، بخلاف المال الذي يخلفه، قال ابن بطال وغيره: فيه التحريض على تقديم ما يمكن تقديمه من المال في وجوه القربة والبر لينتفع به في الآخرة، فإن كل شيء يخلفه المورث يصير ملكاً للوارث، فإن عمل فيه بطاعة الله اختص بثواب ذلك وكان ذلك الذي تعب في جمعه ومنعه، وإن عمل فيه بمعصية الله فذاك أبعد لمالكه الأول من الانتفاع به إن سلم من تبعته، ولا يعارضه قوله 

صلى الله عليه وسلم 

لسعد : «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة»؛ لأن حديث سعد محمول على من تصدق بماله كله أو معظمه في مرضه وحديث ابن مسعود في حق من يتصدق في صحته وشحه».

      فما تدخره لمن بعدك فينتفع به فليس في الحقيقة يعد مالاً لك، وما قدمته بين يدي الله جل وعلا من الصدقات والأوقاف التي أردت بها وجه الله هو المال الحقيقي لك، فهو الذي ينفعك يوم القيامة.

       وقد حرص النبي 

صلى الله عليه وسلم

على غرس هذا الأمر وتقريره في نفوس صحابته رضوان الله عليهم، بإخبارهم بأن من مات وترك مالاً للورثة؛ لم ينتفع به بعد موته, إلا ما كان عنه صدقة أو صدقة جارية، فذلك هو مال العبد الحقيقي. ووعى أصحاب رسول الله

صلى الله عليه وسلم

  ذلك جيداً، فزهدوا بالدنيا وأكثروا من الصدقة، فحياة العبد دار امتحانه وموضع سعيه، وبموته ينقطع عمله ويتوقـف كسبه؛ فلا ينقـص مـن حسناته ولا يزاد إلا بأعمال محددة جلاها الشارع وأوضحتها النصوص، ومن أجلِّ الأعمال التي تزيد الحسنات وأبرزها الصدقة الجارية الباقية بعد موت العبد سواء ما كان منها في سبيل نصرة الدين أم في تخفيف معاناة المعوزين أو غير ذلك من أبواب البر.

       فلو لم يكن في الصدقة من فضل إلا هذا لكان فيه كفاية لمن عقل وأراد النجاة. فيا من إذا مات انقطع عمله، وفاته أمله، وحق ندمه، وتوالى همه، احرص على ما ينفعك، وأكثر صدقتك التي يجري أجرها لك بعد موتك؛ فإن ذلك قرض منك لك مدخر عند ربك.

       وأفضل وسيلة لاستثمار الأموال هي الصدقة الجارية الباقية بعد أن توزع الأموال للورثة، وبعد أن ينقطع العمل بانقطاع الحياة، وهذه الوسائل والسبل سلكها من سبقونا فعادت عليهم الأرباح في الدنيا سكينة في النفس وطمأنينة في القلب وبركة في العمر والرزق والبدن والزوجة والولد، ورحمة ومحبة في قلوب الخلق، وعادت منافعها عليهم في الآخرة ثواباً موصولاً لا ينقطع، فانتفع بالوقف جميع الناس أحياءا وأمواتاً.  

       والوقف عمل ناجز في الحياة، تقر عين صاحبه به، وذلك أنه يباشره بنفسه ويرى آثاره الطيبة، وقد سئل النبي 

صلى الله عليه وسلم 

أي الصدقة أفضل فقال: «أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان».

       وكم من وقف انتفعت به ألوف وملايين وأصحابها في التراب واراهم النسيان، ولكن أجورهم موصولة، وهذا هو باب الخير المفتوح بعد ممات الإنسان، قال تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون}. ومن مات ولم يوفق لهذه السنة من الخير سنة الوقف فمن بر الأبناء بآبائهم أن يسارعوا بالإحسان بعمل وقف لهم في حياتهم أو بعد مماتهم، فهذه زيادة في درجاتهم عند الله، وهو خير مدخر للولد عندما يصير أباً، فيسخر الله له من يقوم على بره وطاعته كما كان بارا ًبوالديه، والجزاء من جنس العمل، فالبر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا يموت، فكن كما شئت كما تدين تدان. 

        كل مسجد يبنى من مال الوقف, وكل يتيم يترعرع ويعيش على مال الوقف, وكل مريض يعالج، وكل مسن يراعى في دار للمسنين، والأرامل التي ينفق عليها من مال الوقف، وكذلك كل معاق يعال من مال الوقف، وكل طالب علم يدرس من مال الوقف فإن الأجر والثواب يكتب للواقف وكذلك الذين دلوا على الخير وأرشدوا إليه أو ساعدوا فيه، فما أعظم هذا الجزاء الذي يسهل من أجله العطاء.

وحقاً ما قال الشاعر:

قد مات قومٌ وما ماتت مَكارِمُهُمْ

                                     وعاش قومٌ وهمْ في الناس أمواتُ

والوقف منه الخيري، أو الأهلي أي الذُرِّي، أو المشترك :

- أما الوقف الخيري: فهو ما يصرف منه الريع من أول الأمر إلى جهة خيرية، كالفقراء والمساجد والمدارس والمستشفيات ونحوها.

- والوقف الأهلي أو الذُرّي:  ما جعلت فيه المنفعة للأفراد، أما على الواقف نفسه، أو أقاربه، أو شخص معين.

- وهناك نوع ثالث سمي بالوقف المشترك: وهو ما يجمع بين الوقف الأهلي والخيري؛ يوقفه الواقف على جهة خيرية وعلى الأفراد، أو أن يكون لأقاربه بداية ثم لأبواب الخير من بعدهم.  

      وتقسيم الوقف وتسميته بالأهلي والخيري لم يكن موجوداً في العصور الأولى للإسلام، بل كانت الأوقاف معروفة بالصدقات، ولذلك كان يقال: (هذه صدقة فلان)، وكتب أوقاف الصحابة كلها عبرت عن الوقف بالتصدق: فتصدق بها عمر على كذا وكذا، وتصدق أبوبكر بداره بمكة على ولده، وكثير من هذه التعبيرات.

      وبالرغم من عدم وجود تقسيم للوقف وتسميته بالأهلي أو الخيري، إلا أنه كان موجوداً بنوعيه منذ أن عرف الوقف في الإسلام، بل إن وقف عمر الذي يعد أساساً لما جاء بعده من أوقاف، كان موزعاً بين جهات البر وذوي القربى. وحقيقة الأمر أن الوقف سواء كان على الأهل، أو على سائر جهات البر، فيه معنى الخير، والإحسان، والصدقة.

- والحديث فيه فوائد جمة: فيه حكمة عظيمة ممن أوتي جوامع الكلم 

صلى الله عليه وسلم

 ، فمالك الذي تقدمه لله عز وجل تجده أمامك يوم القيامة، ومال الوارث ما يبقى بعدك من الذي ينتفع به ويأكله هو الوارث، فهو مال وارثك على الحقيقة.

       وفيه أن الصدقة، والوقف على وجه الخصوص خير استثمار وإن فنيت الأعمار. وفيه تنوع خطاب النبي

صلى الله عليه وسلم

 للصحابة بسؤالهم، ولفت أنظارهم، حتى لا يصيب السامعين السآمة والملل.

      وفيه حسن خلق النبي بإنصاته للصحابة، وسماع جوابهم، وهذا من الأخلاق الكريمة التي ربى عليها رسولنا الكريم صحابته الكرام رضوان الله عليهم، بأن يتواصل معهم يُسمعهم ويَسمعهم.

وفيه الحث على بذل المال حسب ما شرع الله عز وجل، وفيه الحث على العمل أن تدخر لنفسك في دنياك لتجده أمامك في آخرتك. 

      فما دام مالك أحب إليك من مال ورثتك، فأنفق مالك فيما يرضي الله، وإذا أنفقت؛ فإن الله يخلفه؛ قال تعالى:  {إنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}، قال أهل العلم: «ومن آثارهم الوقف بعد مماتهم». أن من آثار الموتى التي تكتب لهم ويؤجرون عليها الوقف فدل على مشروعية الوقف.ومعناه: «أن الله يكتب أعمال العباد التي باشروها في حياتهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فيجزيهم على ذلك إن خيراً فخير، وإن شراً فشر».

- ولأبي السعود كلام جلي يقول فيه: « ونكتب ما قدموا أي ما أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها، وآثارهم التي أبقوها من الحسنات كعلم علَّموه، أو كتاب ألَّفوه، أو حبيس وقَفُوه، أو بناء بنوه من المساجد والرباطات والقناطر وغير ذلك من وجوه البر، ومن السيئات كتأسيس قوانين الظلم والعدوان، وترتيب مبادئ الشر والفساد فيما بين العباد، وغير ذلك من فنون الشر التي أحدثوها وسنوها لمن بعدهم من المفسدين».

فالمال غاد ورائح، وما هو إلا وسيلة للإنفاق والبذل، وكم من وقف انتفعت به ألوف وملايين وأصحابها في التراب واراهم النسيان، ولكن أجورهم موصولة، وهذا هو باب الخير المفتوح بعد ممات الإنسان. 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك