رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 6 فبراير، 2012 0 تعليق

الأربعون الوقفية (18)

 

 جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله؛ وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملاً, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا .

 

       والحديث الثامن عشر، يخبرنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه مهما حرص على المال، فليس له حقيقة إلا ما أكل فاستهلك، ولبس فأبلى، وتصدق فأنفذ، وما سوى ذلك فإنه تاركه للناس لا محالة.       

الحديث الثامن عشر:

الوقف والصدقة  مال باقٍ

       عَنْ مُطَرِّفٍ بن عبدالله عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: ألهاكم التكاثر، قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي (قال) وهل لك يا ابن آدم! من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟».

       إن مال الإنسان الحقيقي هو ما قدمه لنفسه ذخراً عند ربه كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}. أي تركتم ما أعطيناكم من أموال الدنيا وراء ظهوركم للوارثين من بعدكم؛ فليس لنا من مالنا إلا ما تصدقنا به فأمضينا، ولبسنا فأبلينا, وأكلنا فأفنينا، وما سوى ذلك فإننا ذاهبون وتاركوه للناس؛ فالصدقة هي الباقية، كما قالت عائشة: «أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما بقي منها؟ قلت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: بقي كلها غير كتفها».

        فالسعيد من اتخذ من دنياه ما ينفعه في آخرته، ويجعل منها ما يمتد فيه الأجر والثواب، فالعاقل هو من قدّم من ماله ما يحبه فيفوز به في دار الإقامة، فإن من أحب شيئاً استصحبه معه ولا يدعه لغيره فيندم ولا ينفع الندم؛ وهذا من فعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ابن عمر لا يعجبه شيء من ماله إلا قدمه لله، حتى إنه كان يومًا راكباً على ناقة فأعجبته، فنزل عنها في الحال، (وقلدها) وجعلها هديًا لله عز وجل.

        قال ابن كثير في تفسيره سورة التكاثر: «يقول تعالى أشغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها، وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر وصرتم من أهلها»، وقال ابن القيِّم: «ما أعظمها من سورة، وأجلَّها وأعظمها فائدةً، وأبلغها موعظةً وتحذيرًا، وأشدَّها ترغيبًا في الآخِرة، وتزهيدًا في الدُّنيا، على غاية اختصارها وجزالة ألفاظها، وحُسْن نظمها، فتبارَك مَنْ تكلَّم بها حقًّا، وبلَّغها رسولُه عنه وَحْيًا».

       وفي لفظ آخر عند مسلم كذلك: «يقول العبد: مالي مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب، وتاركه للناس».

        والمعنى: أن الذي يحصل له من ماله ثلاث منافع في الجملة، لكن منفعة واحدة منها حقيقيَّة باقية، والباقي منها صوريَّة فانية:  (مَا أَكَلَ) أي ما استعمل من جنس المأكولات والمشروبات (فَأَفْنَى) أي فأعدمها، (أَوْ لَبِسَ) أي من الثياب (فَأَبْلَى) أي فأخلقها، (أَوْ أَعْطَى) أي لله تعالى (فَاقْتَنَى) المعنى في اللغة: «يقتَني» وهو أنْ يتخذه لنفسه لا للبيع، والمقصود في الحديث  أنه لـمّا أعطى هذا المالَ لله تعالى جعله اللهُ ذخيرةً له للآخرة، (وَمَا سِوَى ذَلِكَ) أي وما عدا ما ذُكِرَ من سائر أنواع المال من المواشي والعقار والخدم والنقود والجواهر ونحو ذلك (فَهُوَ) أي ذلك العبدُ (ذَاهِبٌ) عنه،  (وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ) أي تاركه للورثة أو غيرهم بلا فائدةٍ راجعةٍ إليه، مع أنّ مطالبة المحاسبة في القبر والآخرة والمعاقبةُ عليه هو.

فالموفق من جعل من المال عملاً يبلغ به إلى الآخرة، فعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله». وعن أبي بَرْزَةَ الأَسْلَمي رضي الله عنه: أنَّ النبيَ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزول قَدَما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره: فيمَ أفناه، وعن علمه فيمَ فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه».

لذا قال الأوزاعي:

المال يذهب حله وحرامه

                          يومًا ويبقى بعده آثامه

ليس التقي بمتق لإلهه

                         حتىيطيب طعامه وكلامه

       وذكر الحافظ بن عساكر في ترجمة الأحنف بن قيس واسمه الضحاك أنه رأى في يد رجل درهماً فقال لمن هذا الدرهم فقال الرجل لي فقال إنما هو لك إذا أنفقته في أجر أو ابتغاء شكر، ثم أنشد الأحنف متمثلا قول الشاعر:

أنت للمالِ إذا أمْسَكته

                       فَإِذا أنْفَقته فالمال لك

       والحديث فيه فوائد جمة: فهو دلالة واضحة على أن ما كان لعاجلة أمرك من الدنيا فهو الفاني والبالي, وما جعلته لله من الصدقة فهو ما أمضيته وأبقيته وجعلته أمامك ذخراً لك ساعة لقاء الله تعالى.

        وفيه توجيه للمسلم في نهج التعامل مع ما اكتسبه من مال يخصه، فمهما حرص الشخص وتعامل بالمال، وجمع وأكثر، فليس له حقيقة إلا مأكل، ولبس فأبلى، وتصدق فأنفذ، وما سوى ذلك فإنه لا محالة تاركه. وفيه أن الصدقة ذخر لصاحبها وكنز له. 

        وفيه أن مال العبد في الحقيقة هو ما قدم لنفسه ليكون له ذخراً بعد موته، وليس ماله ما جمع فاقتسمه الورثة بعده. فأرباح الدنيا مهما بلغت لن ترحل معنا إلى القبور، وثروة الإنسان مهما زادت فهي إلى الورثة من بعده ثم إلى الأحفاد ثم إلى مالك الملك فهو الوارث الحقيقي للأرض ومن فيها ومن عليها: {إنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}.

       وأفضل ما يتصدق به المسلم هو الوقف الذي يستمر ثوابه، قال الله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاق}. فالوقف صدقة ليست بواجبة، وإنما يتطوع بها المسلم ويبذلها لوجه الله تعالى، وهو سنة مستحبة، مسنونة مشروعة، ولا سيما مع حاجة الناس إليها، وفي السنة المطهرة حث على الصدقة الجارية، والتي هي باب من أبواب الصدقة، بل أفضل تلك الأبواب.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك