رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 28 نوفمبر، 2011 0 تعليق

الأربعون الوقفية

 

جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وغيرها، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاما وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.

       والحديث العاشر، بشرى لكل مسلم، لينال الأجر العظيم ويستمر الأجر في الحياة وما بعد الممات، ما دام ينتفع منه الإنسان أو الطير أو البهيمة ، ألا وهو الغرس والزرع.

الحديث العاشر : الغرس صدقة إلى يوم القيامة

        عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له منه صدقة» (1).

      يبشرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الغرس باب من أبواب البر والخير يسلكه المؤمن رغبة في إعمار الأرض ودوام الأجر والثواب، وأنه ما من مسلم يغرس غرساً، أي: يثبت الشجر في الأرض، أو يزرع الزرع - والغرس غير الزرع - فيأكل من المزروع أو المغروس إنسان أو طير أو بهيمة باختياره أو من غير اختياره، إلا كان له به صدقة إلى يوم القيامة، ما دام يُنتفع من زرعه وغرسه.   

       وفي رواية مسلم عن جابر: «ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق له منه صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة»(2). 

       وجاء في الحديث: «سبع يجري للعبد أجرهُنَّ وهو في قبره بعد موته» (3)، وذكر منها: «غرس النخل»، فمن غرس نخلاً وسبّل ثمره للمسلمين فإن أجره يستمر كلما طعم من ثمره طاعم, وكلما انتفع بنخله منتفع من إنسان أو حيوانٍ, وهكذا الشأن في غرس كل ما ينفع الناس من الأشجار، ففي غرس النخل والزروع نماء للمجتمع، وتوفير الحاجيات الأساسية، وتحقيق الأمن الغذائي، والمساهمة في عملية التنمية الاقتصادية، وزيادة عوامل الإنتاج كمّاً ونوعاً.

        ومن فضل الإسلام أن جميع أعمال المسلم التي ينتفع بها غيره، يثاب عليها في الآخرة، حتى وإن كان المنتفع حيواناً أو طيراً، ولا يكون ذلك إلا للمسلم؛ ولذلك سأل الرسول صلى الله عليه وسلم  أُم مُبَشِّر الأنصارية قائلاًَ لها:  من غرس هذا النخل؟ أمسلم أم كافر؟ فقالت: بل مُسلم، فقال: «لا يغرس مسلم غرساً، ولا يزرع زرعا، فيأكل منه إنسان ولا دابَّة ولا شيءٌ، إلا كانت لهُ صدقةٌ»(4).

       وكان الصحابة رضوان الله عليهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان لهم أجر في الإحسان إلى البهائم وفي سقيها وإطعامها،  فأجابهم بأنه في كل كبدٍ رطبةٍ أجرٌ، أي في كل كبد حي أجر. وحرص الصحابة رضوان الله عليهم على وقف البساتين، والزروع والحوائط،  قربة إلى الله تعالى، ونفعا للعباد، وكل كبد رطبة، وأشهدوا على ذلك، وبعضهم تولى نظارتها ورعايتها وتوزيع نتاجها في حياته، وأوصى بمن يتولاها من بعده، فعمر رضي الله عنه قد أوقف أرضه بخيبر وهي أنفس ما ملك ، ووقف على بن أبي طالب رضي الله عنه أرضه بينبع، ووقف أبو طلحة رضي الله عنه مزرعته «بيرحاء» وكان فيها أجود نخل المدينة، وأوقف عمرو بن العاص ] أرضه المسماة (الوَهَط أو الوُهَيْطِ) في الطائف، ووقف جابر بن عبد الله رضي الله عنه بستانه على ألا يباع ولا يوهب ولا يورث.

       وروى أحمد بالسند عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل» (5). 

      أي إن قامت القيامة وفي يد أحدكم نخلة صغيرة - الفسيل صغار النخل- فإن استطاع ألا يقوم من محله الذي هو جالس فيه حتى يغرسها فليغرسها ندباً، فالمسلم يستمر على عمل الخير ومنه الغرس، ولو كان قبل القيامة بلحظات، فإنه مأجور على ذلك.

       جاء في «فيض القدير»: والحاصل أنه مبالغة في الحث على غرس الأشجار، وحفر الأنهار؛ لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غيرك فانتفعت به؛ فاغرس لمن يجيء بعدك لينتفع، وإن لم يبق من الدنيا إلا صبابة (6).

       فإن الله عز وجل لم يخلق الخلق عبثاً {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}.. بل خلقهم من أجل غاية حددها لهم وهي : عبادة الرب، وعمارة الأرض، وتزكية الأنفس.

       وقد ورد الثناء على من يأكل من كسب يده كما في قوله : عندما سُئل أي الكسب أطيب؟ قال : «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور» (7)، وغرس الزرع حث على الجد، وذم البطالة، وتوجيه العاطلين إلى مصادر الكسب الحلال، قال ابن حجر - رحمه الله -: «ومن فضل العمل باليد الشغلُ بالأمر المباح عن البطالة واللهو وكسر النفس بذلك ، والتعففُ عن ذلة السؤال، والحاجةِ إلى الغير» (8) ، وقال أيضاً: « فيه الحث على عمارة الأرض، وأن أجر ذلك يستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولاً، ولو مات زارعه أو غارسه» (9).

      وأوقاف المسلمين في العهود الإسلامية تعدت حاجة الإنسان لتفي بحاجة الحيوان، وقد ثبت في التأريخ أوقاف خاصة لتطبيب الحيوانات المريضة، وأوقاف لرعي الحيوانات المسنة العاجزة كوقف أرض المرج الأخضر بدمشق. وأوقاف خصص ريعها لخدمة الحيوانات والرفق بهم، ومن ذلك أوقاف للخيول المُسِّنة، وأوقاف لطيور الحرم؛ وكان – إلى عهد قريب - وقف خاص لمركب شيخ الأزهر عرف بمسمى «وقف بغلة شيخ الأزهر»، ليوفر الدابة التي يركبها شيخ الأزهر ونفقاتها وعلفها ورعايتها. وفي مدينة فاس خصص وقف على نوع من الطير يأتي في موسم معيَّن، فوقف له بعض الخيِّرين ما يعينه على البقاء، ويسهِّل له العيش في تلك المدَّة من الزمن؛ وكأن هذا الطير المهاجر الغريب له على أهل البلد حقَّ الضيافة والإيواء! وكانت هناك مدارس خاصة لتدريب الخيول على الفروسية، وغيرها الكثير.

       وكان من روائع أوقاف الناصر صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- بعدما حرر القدس وفلسطين من أيدي الصليبيين، وأراد أن يعيد الحياة للقدس وليهيئ مرافقها لاستقبال من شد الرحال إلى المسجد الأقصى، وإعادة الطابع الإسلامي والحيوية للمدينة المباركة، أن قام بوقف الكثير من الأراضي والمزارع والقرى لتصرف محاصيلها على المسجد الأقصى ومدينة القدس.

نستخلص من الحديث فوائد منها:

       في هذا الحديث ترغيب في أعمال الخير، وأن الغرس والزرع صدقة جارية  إذا انتفع به الغير  من آدمي أو طير أو دآبة، وأن الغرس  نوع من أنواع العبادات التي ينبغي للموسرين ألا يحرموا أنفسهم منها، وأن أجرها باق للإنسان بعد موته.

       وفيه فضيلة الغرس وفضيلة الزرع، وأن أجر فاعلي ذلك مستمر ما دام الغراس والزرع وما تولد منه إلى يوم القيامة، وفيه أن الثواب والأجر في الآخرة يختص بالمسلمين، وفيه أن الإنسان يثاب على ما سرق من ماله أو أتلفته دابة أو طائر أو نحوهما.

         وفيه الحض على عمارة الأرض, واتخاذ الزرع والقيام عليه ورعايته، وفيه أن أجر ذلك الزرع يستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولا منه ولو مات غارسه أو انتقل ملكه إلى غيره فإن له فيه أجرا.

       وفيه أن الغرس والزرع جمع خيري الدنيا والآخرة، ففي الأولى كان وما زال الوقف داعماً رئيساً للتنمية والحضارة، وفي الآخرة الثواب والأجر المستمر بفضل الله ومنّه على خلقه. وفيه أن الوقف شمل مختلف جوانب الحياة، والغرس تنمية للموارد الوقفية وبذل للجهود بالوسائل المتاحة لزيادة موارد الوقف وتكثيرها.

       وفيه استمرار ثواب الزرع والغرس إلى ما بعد الممات ما دامت باقية يؤكل منها، وفيه فضل مباشرة العمل باليد، وما يترتب عليه من الجهد والكدح والتعب والعناء.

        ولا شك أن القيام بمهمة الاستخلاف في الأرض وإعمارها بالزروع، مقصد من مقاصد الوقف الإسلامي، والذي يسهم في تلبية حاجات المسلمين -وغيرهم - الضرورية من الطعام، والغرس والزرع صورة من صور التكافل الاجتماعي، ومظهر من مظاهر اهتمام المسلمين بشؤون مجتمعهم، وضمان مستقبل أجيالهم،  لتكتفي الأمة المسلمة بما لديها من موارد اقتصادية بدل أن تستجدي الطعام من غيرها، أو تنتظر إحسان الآخرين عليها، ولقد عاشت الأمة المسلمة قرونًا وعقودًا سابقة لديها الأمن الغذائي، بسبب كثرة الأوقاف وبركتها.

 

الهوامش

(1) أخرجه البخاري في الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم، برقم (6012) ومسلم في المساقاة والمزارعة، باب: فضل الغرس والزرع، برقم (1552).

2 - أخرجه مسلم في صحيحه، باب فضل الغرس والزرع برقم 1552.

3 - أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (2/390)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم : 3602.

4 - أخرجه مسلم في صحيحة برقم1553.

5 - رواه أحمد (12512) واللفظ له، والبخاري في الأدب المفرد (1/168)،  قال شعيب الأرناؤوط وآخرون: إسناده صحيح على شرط مسلم، انظر مسند الإمام أحمد بن حنبل (20/296) المحقق: شعيب الأرناءوط.

6 - فيض القدير شرح الجامع الصغير (3/30) لعبد الرؤوف المناوي، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، ط. الأولى (1356هـ).

(7) أخرجه الحاكم، في المستدرك، عن أبي بردة، برقم 2203، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم 607. 

(8)  فتح الباري ، ابن حجر ، 4 / 384.

(9)  المرجع السابق ، 5 / 6.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك