رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: جهاد العايش 27 يناير، 2016 0 تعليق

الأربعون الفلسطينية الْحَدِيثُ الْخَامِسُ- فَضْـــلُ الاعْتِكَـافِ فَي الْمِسْجِدِ الأقْصَى

كتاب الأحاديث الأربعون الفلسطينية، وثيقة نبوية تؤكّد ارتباط الأرض المقدسة فلسطين برسالة التوحيد عبر الأزمان كلها أولها وأوسطها وآخرها، إنها أحاديث المصطفى[ التي تشد العالمين إلى أرض فلسطين، إنها زبدة أحاديث سيد المرسلين حول فلسطين وأهلها، صحيحة صريحة تبعث فينا الأمل والجرأة في الحق، وصدق اليقين، ولقد لقي متن كتاب (الأحاديث الأربعون الفلسطينية) قبولا واسعا؛ فقد تدافع كثيرون إلى ترجمته إلى لغاتهم، فاستحق أن يكون لهذا المتن شرح يليق به، وها نحن ذا نشرح هذه الأحاديث في هذه السلسلة المباركة، واليوم مع شرح الحديث الخامس:

عـن حـذيفة بن اليـمـان رضي الله عنه  قال: إنّ رسـول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «لَاْ اعْتِكَافَ إِلَّا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَمَسْجِدِ بَيْتِ المقْدِسِ».

ترجمة الصحابي راوي الحديث:

     حُذيفةُ بنُ اليمانِ بنِ جابرٍ العبسيُّ، واسمُ اليمانِ: حِسْلٌ -ويُقالُ: حُسَيْلٌ- ابنُ جابرٍ العبسيُّ، اليمانيُّ، أبو عبدِاللهِ حليفُ الأنصارِ، منْ أعيانِ المهاجرينَ، منْ نجباءِ أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم  وهوَ صاحبُ السرِّ. سُئلَ عليً عنْ حذيفةَ، فقالَ: «عَلِمَ المنافقينَ، وسألَ عنِ المُعضلاتِ»؛ فإن تسألوهُ، تجدوهُ بهًا عالمًا. وليَ حذيفةُ إمرةَ المدائِنِ لِعُمرِ، فبقيَ عليهَا إِلى ما بعدِ مقتلِ عثمانَ، وتُوفِّيَ بعدَ عثمانَ بأربعينَ ليلةً.

     وكانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم  قدْ أسرَّ إِلى حذيفةَ أسماءَ المُنافقينَ، وضبطَ عنهُ الفتنَ الكائنةَ فِي الأمَّةِ. قالَ حذيفةُ عنْ نفسِهِ: واللهِ إنِّي لأعلمُ الناس بكلِّ فتنةٍ هي كائنةٌ فيما بيني وبينَ الساعة. قالَ الذهبيُ «منْ نجباءِ أصحابِ محمَّد وهوَ صاحبُ السرِّ، ندبهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم  ليلةَ الأحزابِ لِيجُسَّ لهُ خبرَ العدوِّ، وعلى يدهِ فُتحَ الدينورُ عنوةً. ومناقبهُ تطولُ، ماتَ حذيفةُ بالمدائنِ، سنةَ ستٍ وثلاثينَ، وقد شاخَ. شهدَ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم  أُحدًا هو وأبوهُ، رَوى عنْ: النبيِّ صلى الله عليه وسلم  وعن عمر بن الخطاب، مات سنة ست وثلاثين فِي المدائن، لهُ فِي الصحيحينِ سبعة وثلاثون حديثًا، المتفقُ عليه منها اثنا عشر، وانفرد البخاريُّ بثمانية ومسلم بسبعة عشر.

شرح الحديث:

     وهذه مزيةٌ ولون آخر من ألوان الفضائل التي اختص بها المسجد الأقصى، فقد تنوعت صنوف فضائله، وتعددت العبادة فيه ما بين الصلاة إليه قبل أن تنسخ القبلة، وبين فضل الصلاة فيه أو فضل قصد زيارته أو المكث فيه تقربا إلى الله -تعالى- وهذا مراد حديث الباب فإليكم شرحه.

قوله: لا اعتكاف إلاّ في المساجد الثلاثة: الاعتكاف: (عكفه) حبسه ووقفه، ومنه قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا} (الفتح:25) ومنه (الاعتكاف) في المسجد وهو الاحتباس و (عكف) على الشيء أقبل عليه مواظبًا وبابه دخل وجلس.

«و عكف على الشيء يَعكُفُ ويَعكِفُ عكفًا وعكوفًا، أقبل عليه مواظبًا لا يصرف عنه وجهه، وقيل أقام، ومنه قوله تعالى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ}، أي يقيمون؛ ومنه قوله تعالى: {ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا}.

     قال العلَّامة الأصولي البارع الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-: «وإن صح هذا الحديث فالمراد به لا اعتكاف تاماًّ، أي أن الاعتكاف في هذه المساجد أتم وأفضل من الاعتكاف في المساجد الأخرى، كما أن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المساجد الأخرى.

هل الاعتكاف خاص بالمساجد الثلاثة دون غيرها:

     فقد تباينت وجهات النظر منذ عهد الصحابة الكرام؛ فهذا حذيفة بن اليمان الصحابي الجليل يقول لابنِ مسعودٍ: أَلا تعجبْ منْ قومٍ بينَ دارِكَ، ودارِ أبي موسَى يزعُمونَ أنهمْ معتكفونَ؟ قالَ: «فَلَعَلَّهُمْ أَصَابُوا، وَأَخْطَأْتَ أَوْ حَفِظُوا، وَنَسِيتَ»، قالَ: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ».

     ويرى فريق كبير جدا من العلماء مشروعية الاعتكاف في جميع المساجد ومن غير تخصيص المساجد الثلاث فقط؛ فقد ذكر الإمام الطحاوي -رحمه الله- باب بيان مشكل ما روي عن حذيفة بن اليمانرضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  في المساجد التي لا يجوز الاعتكاف إلا فيها: «قالَ حذيفةُ لعبدِ اللهِ: عكوفٌ بينَ داركَ ودارِ أَبِي موسَى لَا تُغيِّرُ، وقدْ علمتَ أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم  قَالَ: «لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ» قالَ: عبدُ اللهِ لعلَّكَ نسيتَ وحفظُوا، وأخطأتَ وأصابُوا. قالَ أبُو جعْفرٍ: فتأملنَا هذَا الحدِيثَ فوجدنَا فيهِ إخبارَ حذيفةَ ابنَ مسعودٍ أنهُ قدْ علِمَ ما ذكرَهُ لهُ عنِ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم  وترْكَ ابنِ مسعودٍ إنكارَ ذلكَ عليهِ وجوابهُ إياهُ بمَا أجابَهُ بهِ في ذلكَ منْ قولهِ: «لَعَلَّهُمْ حَفِظُوا» نسخَ مَا قدْ ذكرْتُهُ منْ ذلكَ، وأصابُوا فيمَا قدْ فعلُوا، وكانَ ظاهرُ القرآنِ يدلُّ علَى ذلكَ وهوَ قولُهُ عزَّ وجلَّ: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (البقرة: 187)، فعمَّ المساجدَ كلهَا بذلكَ، وكانَ المسلمونَ عليهِ منَ الاعتكافِ في مساجدِ بلدانهِمْ، إِمَّا مساجدُ الجماعاتِ التِي تقامُ فيهَا الجمعاتُ، وإما هيَ وما سواهَا منَ المساجدِ التِي لهَا الأئمةُ والمؤذنونَ علَى مَا قالهُ أهلُ العلمِ في ذلكَ».

وبه قال الشوكاني -رحمه الله-: «أفضلية المساجد واختصاصها بشد الرحال إليها لا تستلزم اختصاصها بالاعتكاف».

     وأما من العلماء المعاصرين كالشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- يرى أن الاعتكاف جائز في جميع المساجد لكن هذه المساجد الثلاث اختصت بفضل الاعتكاف الكامل فيها فقال «ويدل على أنه عام في كل مسجد قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (البقرة:187)، فقوله تعالى:{الْمَسَاجِدِ} (الـ) هنا للعموم، فلو كان الاعتكاف لا يصح إلا في المساجد الثلاثة لزم أن تكون (الـ) هنا للعهد الذهني، ولكن أين الدليل؟ وإذا لم يقم دليل على أن (الـ) للعهد الذهني فهي للعموم، هذا الأصل، ثم كيف يكون هذا الحكم في كتاب الله للأمة من مشارق الأرض ومغاربها، ثم نقول: لا يصح إلا في المساجد الثلاثة؟! فهذا بعيد أن يكون حكم مذكور على سبيل العموم للأمة الإسلامية، ثم نقول: إن هذه العبادة لا تصح إلا في المساجد الثلاثة، كالطواف لا يصح إلا في المسجد الحرام، فالصواب أنه عام في كل مسجد، لكن لا شك أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة أفضل، كما أن الصلاة في المساجد الثلاثة أفضل».

     قلت: وبما أن الحديث صحيح صريح في اثبات أصل الاعتكاف في سائر المساجد والمراد هنا هو نفي كمال الاعتكاف في غير المساجد الثلاث المخصوصة، وأما قوله تعالى: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فهو عام، ومعلوم في الأصول أن يُحمل العام على الخاص؛ لذا نرى والله أعلم أن الحديث مخصص للآية.

وهناك طائفة من أهل العلم ترى بعدم جواز الاعتكاف في غير هذه المساجد الثلاث، قال الخطابي: قال بعض أهل العلم: لا يصح الاعتكاف إلا في واحد من هذه المساجد الثلاثة.

قوله:المسجد الحـرام ومسـجـــد الـنّـبـي، ومسجــد بيـت المقدس: والتعريف بفضل هذه المساجد ومضاعفة الصلاة فيها مرَّ معنا في هذا الكتاب.

اعتكاف اليهود:

     ويظهر -والله أعلم- أن بني إسرائيل لما كانوا على الشريعة كان من هديهم الاعتكاف ومن محله المسجد الأقصى، فهذه مريم بنت عمران، أم عيسى عليه السلام بعد أن نذرتها أمها وكفلها زوج خالتها نبي الله زكريا عليه السلام، كان لها محراب تتحنث فيه في المسجد الأقصى، كما أخبر المولى عن حالها في محرابها: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} ( آل عمران: 37).

     ومن جهة أخرى وبعد انحراف بني إسرائيل وفساد عقيدتهم يرى اليهود -وكعادتهم- الطعن في الله -تعالى- عما يقولون علوًا كبيرًا، أن الرب اعتكف في اليوم السابع، وهو اعتكاف استراحة من تعب أصابه، كما جاء في توراتهم المحرَّفة: «في عيد الفصح، يذبح غنمًا وبقرًا، ولا يأكل عليه خبزا مختمرًا، لمدة سبعة أيام، ويذبح مساء نحو غروب الشمس، وفي اليوم السابع اعتكاف للرب إلهك، لا يعمل فيه أبدًا». فيجب الاعتكاف في اليوم السابع ويحرم فيه العمل كحرمته في يوم السبت.

أما اعتكافهم فبعد أن فرضه الرب عليهم لم يعد يقبل منهم اعتكاف لكثرة شرورهم كما جاء نص ذلك في التوراة: «إن الله لم يقبل من اليهود اعتكافهم، لكثرة شرورهم، لست أطيق الإثم والاعتكاف».

وبذلك سقط عنهم الاعتكاف، وأقروا أنهم كثيرو الشرور، اعاذنا الله من شرورهم.

من فوائد الحديث:

1- الاعتكاف عام في جميع المساجد دون اختصاص الثلاثة عن غيرها.

2- فيه بيان عظم أجر المساجد الثلاثة وقدرها، وتنوع العبادة فيها.

3- وفي الحديث إشارة إلى فضل الاعتكاف وثوابه وأجره وأنه يتفاوت حسب أجر الصلاة في المساجد الثلاثة، كما جاء في ترتيب الحديث وغيره من أحاديث تفاوت فيها أجر الصلاة بين المساجد الثلاثة.

4- والاعتكاف كان من شريعة بني إسرائيل، لكنهم بدلوا وغيروا.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك