رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: جهاد العايش 27 سبتمبر، 2016 0 تعليق

الأربعون الفلسطينية الْحَدِيثُ الثَّامِنُ عَشْر- جَسَـدُ يُوسُـف يُحْمَـــلُ إِلَى الأرِضِ الْمُبَــارَكَـة

لما خرج بنو إسرائيل من مصر إلى الأرض المقدسة أنار جسد يوسف -عليه السلام- لهم الطريق وكانت هذه البركات من جملة بركات يوسف -عليه السلام- على بني إسرائيل حيًا وميتًا

عدم الالتزام بالعهود والمواثيق صفة متجذرة في اليهود؛ فميثاقهم مع يوسف نكثوه وخرجوا من مصر من غير أن يفوا بوعدهم معه أو يتحملوا تبعات نقل جثمانه معهم

 

كتاب الأحاديث الأربعون الفلسطينية، وثيقة نبوية تؤكّد ارتباط الأرض المقدسة فلسطين برسالة التوحيد عبر الأزمان كلها أولها وأوسطها وآخرها، إنها أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم التي تشد العالمين إلى أرض فلسطين، صحيحة صريحة تبعث فينا الأمل والجرأة في الحق، وصدق اليقين، ولقد لقي متن كتاب (الأحاديث الأربعون الفلسطينية) قبولا واسعا فقد تدافع كثيرون إلى ترجمته إلى لغاتهم، فاستحق أن يكون لهذا المتن شرح يليق به، وها نحن أولاء نشرح هذه الأحاديث في هذه السلسلة المباركة، واليوم مع شرح الحديث الثامن عشر:

     عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: «أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعرابيٌّ فأكرمه، وفي رواية: «نزل بأعرابي فأكرمه» فقال: «ائتنا»، فأتاه فقال: «سل حاجتك» فقال: ناقة نركبها، وأعنزًا يحلبها أهلي. فقال: «أعجزتم أن تكونوا»، وفي رواية: «أعجزت أن تكون» مثل عجوز بني إسرائيل؟» فقال أصحابه: يا رسول الله وما عجوز بني إسرائيل؟.

     قال: إن موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر؛ ضَلُّوا الطريق فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: نحن نحدثك: إنّ يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقاً من الله ألاّ نخرج من مصـر حتـى ننقل عظامه معنا، وفي رواية: «حتى ننقل تابوته معنا»، قال: فمن يعلم موضع قبره؟

     قالـوا: ما ندري أين قبر يوسف، إلا عجوز من بني إسرائيل؛ فبعث إليها، فأتته، فقال: دُلوني على قبر يوسف. قالت: لا والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: أكونُ معك في الجنة.

     فكره أن يعطيها ذلك، فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة؛ موضع مستنقع ماء، فقالت: أنضبوا هذا الماء، فأنضبوا، قالت: احتفروا واستخرجوا عظام يوسف. فلما أَقلُّوها إلى الأرض؛ إذا الطريق مثل ضوء النهار.

شرح الحديث

     إن الحديث عن نبي الله يوسف -عليه السلام- فهو كما أخبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف ابن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم خليل الرحمن»، ولعظيم شأنه أن سورة في القرآن نزلت باسمه، وجاءت آياتها كاملة تحكي حياته متسلسلة مشوقة مليئة بالعبر، لنقف أمام نبي شريف في نسبه وأفعاله وأقواله.

      أما توراة يهود فإنها جاءت على نقيض ما جاء به القرآن الكريم لتصف يوسف بأنه: «المستغل والمحتكر لشعب فلسطين ومصر»، وغيرها من أخلاق لا تليق به -عليه السلام-؛ فهو أمر ليس بمستغرب على توراتهم المحرفة التي ما فتئت ولا ملت وبكل وقاحة عن الطعن بأنبياء الله بكل مناسبة وغير مناسبة، وقد زعم اليهود أن لنبي الله يوسف مقامًا في نابلس يزورونه.

قوله: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعرابيٌّ فأكرمه، فقال: «ائتنا»، فأتاه فقال: «سل حاجتك».

     قوله: فقال: ناقة نركبها وأعنزًا يحلبها أهلي، فقال: «أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟» فقال أصحابه: يا رسول الله وما عجوز بني إسرائيل؟: قيل إن اسمها: (مريم بنت ذا موسى).

     أعجزتم: هي القدوة التي أراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يلفت انتباه الصحابة إليها لما أتى أعرابيّاً فأكرمه، فقال له: ائتنا، فأتاه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سَلْ حاجتك، فقال: ناقة برحلها وأعنزاً يحلبها أهلي»، فكان ما سأله ذلك الأعرابي من حطام الدنيا بل وأقلها، فأراد أن يُعلِّم أصحابه علو الهمة والترفع عن سفاسف الأمور؛ فذكر لهم خبر تلكم العجوز من بني إسرائيل مع موسى لما احتاج إليها فانتهزت الفرصة بطلب غاية عظيمة ما بعدها من غاية من نبي الله موسى وهي أن تكون معه في الجنة، حتى كان طلبًا ثقيلًا عليه فكره أن يعطيها ذلك؛ لأنه أمر مختص بالرب -سبحانه وتعالى-.

العجوز القدوة

     فكانت هذه العجوز هي القدوة التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يلفت انتباه أصحابه إلى رفيع طلبها، وهو من كان دائما يعلم أصحابه ذلك، ومما كان يقوله رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا» وقال: «فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ الأعْلَى»

     وبهذه المعاني بوَّب ابن حبان هذا الحديث فقال: «ذكر الخبر الدال على أن لا يعتاض عن أسباب الآخرة بشيء من حطام الدنيا الفانية» أي إنه طالما كان أمامك نبي فاسألة شيئًا من الآخرة، وقريب منه ما كان نحوه.

     قوله: قال: إن موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر؛ ضَلُّوا الطريق: خرج موسى ببني إسرائيل من مصر بعد زمن وفاة يوسف -عليه السلام- في مصر لما كان رسولًا يدعو إلى الله فيها ووزيرًا لها، قال ابن كثير قد بعث فيهم – أي أهل مصر – رسولًا من قبل موسى، هو يوسف وكان عزيز أهل مصر وكان رسولًا يدعو إلى الله، ويدعو ويحث أمته بالقسط فما أطاعوه تلك الطاعة إلا لمجرد الوزارة والجاه الدنيوي.

     قوله: فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: نحن نحدثك: إنّ يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقاً من الله ألاّ نخرج من مصـر حتـى ننقل عظامه معنا: ويوسف -عليه السلام- يبدو أنه علم لا محالة من خروج بني إسرائيل من مصر بعد زمن من وفاته فأخذ منهم المواثيق أن يحملوا جثمانه معهم حينما يأذن لهم الله بالخروج من مصر.

     أما توراة يهود فقد ذكرت طرفًا من هذه القصة ينقلها لنا الشيخ عمر الأشقر -رحمه الله- «أنه لم ترد قصة عجوز بني إسرائيل في التوراة؛ ومما جاء ذكره فيه كما جاء في سفر التكوين: (الإصحاح:50، فقرة: 25): أخذ يوسف على بني إسرائيل العهد بإخراج عظامه معهم عندما يخرجون من أرض مصر، وفيه: «استحلف بني إسرائيل قائلًا: الله سيفتقدكم، فتصعدون بعظامي من هنا». وجاء في التوراة أن بني إسرائيل تاهوا أثناء خروجهم من مصر دون أن تذكر أن ذلك بسبب عدم أخذ جثمان يوسف.

موضع قبر يوسف

     قوله: قال: فمن يعلم موضع قبره؟ قالـوا: ما ندري أين قبر يوسف، إلا عجوز من بني إسرائيل، فبعث إليها، فأتته، فقال: دُلوني على قبر يوسف؟ عجزت جموع بني اسرئيل التي استوطنت مصر أن تعرف مكان قبره فيها غير عجوز واحدة منهم يبدو أنها كانت من الرعيل الأول الذي حفظ واعتنى بمكان قبره بدقه.

     قالت: لا والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: أكونُ معك في الجنة، فكره أن يعطيها ذلك، فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها: وجاء اليوم الذي نفعها معه معرفة مكان قبر يوسف لتنال بهذا الكنز الجنة، فكانت ذكية تعرف مصلحتها الأبدية، فساومت موسى -عليه السلام- أن تكون رفيقة له في الجنة مقابل أن تدلهم على قبر يوسف.

     فنالت هذه العجوز خير ما يتمناه المرء المسلم، وما نالته إلا بيقين عظيم الله أعلم به، وهي أن تفوز بدخول الجنة مع نبي الله موسى، وما كان لها هذا إلا أنها كانت فيما يبدو دائمة الدعاء والطلب من الله أن يرزقها الجنة فجاءها الرد عاجلًا في الدنيا.

     قوله: فانطلقت بهم إلى بحيرة؛ موضع مستنقع ماء، فقالت: أنضبوا هذا الماء، فأنضبوا: أنضبوا: أي جففوا ماءها.

     قوله: قالت: احتفروا واستخرجوا عظام يوسف: والمقصود من عظام يوسف هو جسده الشريف، وهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل ويجوز العكس، وكما هو معلوم أن أجساد أنبياء الله بعد مماتهم لا تبلى كما جاء في الحديث «إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء».

حكم إخراج الميت من قبره

     أما جواز إخراج الميت من قبره لحاجة فقد أثر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما جاء في حديث جابر بن عبدالله قال: أتى رسول الله، عبدالله بن أبي بعد ما أدخل حفرته، فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه» وفي (إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة) للبوصيري، بوب هذا الحديث في كتابه المساجد بعنوان: (باب في نقل عظام الميت).

     وتعرض صاحب الفتح إلى مسألة جواز نقل الميت من بلد إلى بلد، فقال: يكره لما فيه من تأخير دفنه وتعريضه لهتك حرمته، وقيل: يستحب، والأولى تنزيل ذلك على حالتين؛ فالمنع؛ حيث لم يكن هناك غرض راجح كالدفن في البقاع الفاضلة، وتختلف الكراهة في ذلك، فقد تبلغ التحريم، والاستحباب؛ حيث يكون ذلك بقرب مكان فاضل، كما نص الشافعي على استحباب نقل الميت إلى الأرض الفاضلة كمكة وغيرها. والله أعلم.

     قوله: فلما أَقلُّوها إلى الأرض، إذا الطريق مثل ضوء النهار: وحمل جسد يوسف عليه السلام وكان مع بني إسرائيل لما خرجوا من مصر إلى الأرض المقدسة، فأنار جسده الشريف لهم الطريق، وكان بوصلة إرشاد لهم تدلهم على الطريق الصحيح إلى الأرض المقدسة، فكانت هذه البركات من جملة بركات يوسف -عليه السلام- على بني إسرائيل حيًا وميتًا.

من فوائد الحديث:

1- يظهر خلق النبي صلى الله عليه وسلم في إيفاء وعده وإكرام ضيفه.

2- حض النبي أصحابه إلى سمو مطالبهم من الله -سبحانه وتعالى-.

3- الوفاء بالعهود من صفات الأنبياء، موسى يفي بوعده مع العجوز، ومحمد صلى الله عليه وسلم يفي بوعده مع الأعرابي.

4- الداعية ينتهز الفرص والمناسبات في توجيه المدعوين إلى خير أمورهم في الدنيا والآخرة.

5- التفريط في أوامر الأنبياء سبب الغواية والضلال، وذلك لما ضل بنو إسرائيل الطريق؛ كان ذلك بسبب أنهم لم يراعوا أمر يوسف ووصيته لهم قبل خروجهم من مصر.

6- سؤال أهل الاختصاص؛ فعجوز بني إسرائيل امرأة مسنة ضعيفة لا علم لها ولا حيلة ولا يلتفت إليها إلا أنها صاحبة سر قبر يوسف الذي كان بسبب معرفتها به نجاة أمة بني إسرائيل وهدايتهم إلى الطريق السليم.

7- وفيه أن الأنبياء لا يعلمون الغيب، فنبي الله موسى يلجأ في أمر غاب عنه إلى عجوز تكشف له سر أمر خفي.

8- جهل بني إسرائيل في معرفة مكان قبر يوسف فيه دلالة واضحة أنهم لم يكونوا يعظمون قبور أنبيائهم، كما هو حال يهود اليوم في فلسطين تحديدًا ما تركوا مكانًا إلا ونصبوا فيه ضريحًا جعلوه مزارًا يحتشدون عنده، والقبر الذي نسبوه إلى يوسف في نابلس أكبر شاهد على ذلك.

9- إذا هبت رياحك فاغتنمها، فقد اغتنمت هذه العجوز الموفقة حاجة بني إسرائيل التي كانت سببًا لها في الفوز بمرافقة نبي الله موسى في الجنة.

10- عدم الالتزام بالعهود والمواثيق صفة متجذرة في اليهود؛ فميثاقهم مع يوسف نكثونه أو تغافلوه، وخرجوا من مصر من غير أن يفوا بوعدهم معه أو يتحملوا تبعات نقل جثمانه معهم.

11- وفيه أن شريعة من كان قبلنا على جواز نقل الميت من مكان إلى آخر بناء على مصلحة أو وصية، والله أعلم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك