رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: جهاد العايش 7 مارس، 2016 0 تعليق

الأربعون الفلسطينية الْحَدِيثُ الثامن – مُعْجِزَةُ إِسْرَاءِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم منْ مَكَّةَ إِلْى بَيْتِ المَقْدِسِ فِي لَيْلَـةٍ

كتاب الأحاديث الأربعون الفلسطينية، وثيقة نبوية تؤكّد ارتباط الأرض المقدسة فلسطين برسالة التوحيد عبر الأزمان كلها أولها وأوسطها وآخرها، إنها أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم  التي تشد العالمين إلى أرض فلسطين، إنها زبدة أحاديث سيد المرسلين حول فلسطين وأهلها، صحيحة صريحة تبعث فينا الأمل والجرأة في الحق، وصدق اليقين، ولقد لقي متن كتاب (الأحاديث الأربعون الفلسطينية) قبولا واسعا؛ فقد تدافع كثيرون إلى ترجمته إلى لغاتهم، فاستحق أن يكون لهذا المتن شرح يليق به، وها نحن أولاء نشرح هذه الأحاديث في هذه السلسلة المباركة، واليوم مع شرح الحديث الثامن:

     عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «لَمَّا أسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى؛ أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانُوا آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَعَوْا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إلى صَاحِبِكَ؟ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلِة إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ؛ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: وَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لأُصَدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ: أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غُدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ».

شرح الحديث:

     كان مسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم  إلى المسجد الأقصى، من أول مسجد وضع في الأرض إلى ثاني مسجد وضع فيها، فجمع له فضل البيتين وشرفهما، ورؤية القبلتين وفضلهما، وفي حادثة الإسراء ما يدل على قداسة هذين المسجدين وما يحيط بهما من أرض شهدت مبعث النبوّات والرسالات؛ لهذا سمى الله سورة في القرآن باسم سورة (الإسراء) مطلعها قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإسراء:1) وليس هناك سورة باسم المعراج. والإسراء معجزة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وسلم  أن يخرج من بيته في مكة إلى بيت المقدس في فلسطين ثم إلى السماء، ويمر بالسماء واحدة تلو الأخرى، ويلتقي بإخوانه من الأنبياء، ويسلم عليهم حتى يصل إلى سدرة المنتهى ويعود محملا ببعض الأوامر والنواهي في خط الرحلة نفسه، وكل ذلك في جزء من الليل!

     نعم إنها محطة تاريخية نادرة الوقوع في عالم البشر، بتفرُّدِها في الأسلوب والطريقة التي كانت كالصاعقة لمستوى إدراك الناس، لتعيد برمجة الأمة لأهمية هذا المسجد من خلال معجزة الإسراء والمعراج، بطريقة لم يعرفها العرب ولا غيرهم، وفاقت مستوى عقولهم من خلال الإسراء إليه من بيته في مكة والمعراج منه إلى السماء في ساعةٍ من ليلٍ بأسرع دابَّةٍ عرفتها البشرية.

وقد قيل كان وقت الإسراء قبل الهجرة بسنة في ربيع الأول، وهو قول الأكثرين، حتى بالغ ابن حزم فنقل الإجماع على ذلك. وفي هذا الحديث تروي لنا السيدة عائشة مشهدا من مشاهد هذا الحدث الكبير الذي كان سببا في تغير أحوال كثير من الناس.

     ولك أن تعلم حجم عظم هذا الأمر وقوة إعجازه، حتى نقل البيهقي عن الشافعي رحمهما الله فقال: ما أعطى الله نبيًا إلا أعطى الله محمدًا صلى الله عليه وسلم  ما هو أكثر منه، فقيل له: أعطى عيسى ابن مريم إحياء الموتى، فقال الشافعي: حنين الجذع أبلغ؛ لأن حياة الخشبة أبلغ من إحياء الميت، ولو قيل، كان لموسى فلق البحر، عارضناه بفلق القمر؛ وذلك أعجب؛ لأنه آية سماوية، وإن سئلنا عن انفجار الماء من الحجر، عارضناه بانفجار الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ؛ لأن خروج الماء من الحجر معتاد، وأما خروجه من اللحم والدم فأعجب، ولو سئلنا عن تسخير الرياح لسليمان عليه السلام عارضناه بالمعراج.

     قولها: لَمَّا أسْرِيَ: أُسري: مأخوذ من السرى وهو سير الليل، وبالألف لغة أهل الحجاز و السرى لا يكون إلا بالليل تأكيدًا لقولهم (سرت) أمس نهارًا والبارحة ليلًا. أُسْرِيَ إذا سار ليلًا، إشارة إلى تقليل مدة الإسراء، ومعنى «أُسرى به» أي جعل البراق ساريًا به من المسجد الحرام وهو مسجد مكة إلى المسجد الأقصى وهو مسجد بيت المقدس.

وفيه تنبيه على أنه أسري به في بعض ليلة؛ لأنه لو قال: أسرى بعبده، ولم يقل ليلًا، انصرف إلى الليل كله.

- قولها: بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى: وهو المسجد المعروف في بيت المقدس القدس في فلسطين، وكان لله في ذلك حكمة ومن جميل ما قاله الأنصاري في ذلك : «الحكمة في إسرائه صلى الله عليه وسلم  من بيت المقدس دون مكة؛ لأنه محشر الخلائق فيطؤه بقدمه؛ ليسهل على أمته يوم القيامة وقوفهم ببركة أثر قدمه، أو لأنه مجمع أرواح الأنبياء؛ فأراد الله أن يشرفهم بزيارته صلى الله عليه وسلم  أو أسري به منه، ليشاهد من أحواله وصفاته، ما يخبر به كفار مكة صبيحة تلك الليلة، فيكون إخباره بذلك مطابقًا لما رأوا وشاهدًا ودليلًا على صدقه في الإسراء».

- قولها: أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم  هو من بادر الناس بالتحديث عما جرى له في جزء من ليلته تلك التي ارتحل فيها إلى فلسطين ثم إلى السماء ورجع في خط السير نفسه، كما أنه لم تنقل لنا الآثار أن أحدًا افتقد النبي صلى الله عليه وسلم  فلم يجده في بيته أو على فراشه فيكون بذلك خرج النبي صلى الله عليه وسلم  من غير أن يشعر به أحد؛ لذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم  بعد عودته من هذه الرحلة المعجزة يحدث الناس عنها؛ فعن مالك بن صعصعةَ: «أن نبي الله حدثهم عن ليلةِ أُسري به» الحديث، لكن بعد إخبار النبي لهم اضطرب الناس بين مصدق ومكذب أو مذهول من شدة هول الخبر على إدراكه، غير أن المؤمنين منهم كان يعلم صدق كل ما يأتي من النبي من غير أدنى شك.

- قولها: فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانُوا آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ: دل ذلك على أن جحود وقوع آية الإسراء وإنكارها يعد مُخرجًا عن الملة بإجماع المسلمين؛ لأنه إنكار لنص قرآني صريح في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإسراء:1).

- قولها: وَسَعَوْا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إلى صَاحِبِكَ؟ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلِة إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِس قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ؛ لَقَدْ صَدَقَ:وهو تصديق و إقرار مطلق ومن غير أدنى شك أو ريبة منه -رضي الله عنه- بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه لم يجامل هذا الجمع الذي جاءه، وهو يظن في أبي بكر أنه لن يخيب أملهم فيه، في أمر هو فوق إدراكهم وعلمهم، وفيه عند بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم  تجاوز المعقول كما في ظنهم.

- قولها قَالُوا: وَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟:يسألون أبا بكر وهم مستنكرين متعجبين أن يأتي النبي بيت المقدس من مكة في ليلة وهم يقطعونها في شهر !

- قولها:قال: نَعَمْ، إِنِّي لأُصَدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ: أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غُدْوَةٍ: الغدوة ما بين صلاة (الغداة) وطلوع الشمس يقال أتيته (غدوة) غير مصروف لأنها معرفة مثل سحر إلا أنها من الظروف المتمكنة والجمع (غدا)، ويقال أتيتك (غداة غد) والجمع (الغدوات).

- قولها: أَوْ رَوْحَةٍ: العرب تستعمل الرواح في السير كل وقت، يقال راح القوم إذا ساروا وغدوا كذلك.

- قولها: فلذلك سمي أبوبكر، الصديق: الصديق: وهو الملازم للصدق. أي نسبوه إلى الصدق، ووسموه حينها بالصديق.

الحكمة في معراج النبي من بيت المقدس:

     إن أمر الله كله حسن، ولا يصدر منه -سبحانه وتعالى- إلا لحكمة يعلمها، علَّمنا بعضها وأخفي عنا بعضها، ولما كان أمر الاسراء عظيما وحادثة غير مسبوقة في عالم البشر تناول كثير من العلماء حكما جمة من معراجه صلى الله عليه وسلم  تحديدا من بيت المقدس دون أن يكون مثلا من مكة أو من غيرها ، وينقل لنا صاحب الإفصاح طرفا من هذه الحكم فيقول: «فأما الحكمة في أنه عرج به من بيت المقدس ولم يعرج به من مكة، ومكة أفضل من بيت المقدس؛ فالذي أراه في ذلك أنه لو عرج به من مكة لفاته مشاهدة بيت المقدس، ولما كان يقيم الحجة على قريش بصفة النبي صلى الله عليه وسلم  كما ثبتت حجته عليهم حين وصف لهم بيت المقدس والنظر إليه، فلما عرج به من بيت المقدس اجتمع له الحالان، ولتكن خطاه إلى قصد ربه سعيًا وعروجًا.

     أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد تناول الحكمة من إسرائه ومعراجه وعلاقة كل من مكة وبيت المقدس، فقال: « فمكة مبدأ وإيليا معاد في الخلق، وكذلك في الأمر؛ فإنه أُسري بالرسول من مكة إلى إيليا، ومبعثه ومخرج دينه من مكة، وكمال دينه وظهوره وتمامه حتى يملكه المهدي بالشام، فمكة هي الأول، والشام هي الآخر في الخلق والأمر، في الكلمات الكونية والدينية».

هل أسري بالنبي بروحه فقط، أم بروحه وجسده؟

الذي دلت عليه الكثير من الأحاديث الصحيحة هو ما ذهب إليه معظم علماء السلف والخلف من أن الإسراء كان بجسده يقظة إلى بيت المقدس ثم السموات، وهو الحق والصواب الذي لا يجوز العدول عنه.

     قال الحافظ: «وقد اختلف السلف بحسب اختلاف الأخبار الواردة؛ فمنهم من ذهب إلى أن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي صلى الله عليه وسلم  وروحه بعد المبعث، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك؛ إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل».

     وبه قال ابن عباس صلى الله عليه وسلم : « الإسراء والمعراج بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم  كان يقظة، بجسده وروحه.في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} (الإسراء:60) قال: هي رؤيا عين، أُرِيها رسول الله ليلة أسري به إلى بيت المقدس، قال: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} (الإسراء:60) قال: هي شجرة الزقوم».

من فوائد الحديث:

1-  أن الإسراء والمعراج بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم  كان بروحه وجسده، في جزء من ليلة واحدة.

2- معجزة الإسراء والمعراج كانت اختباراً للمسلمين؛ فقد ارتدّ منهم نفر كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم  وأما المشركون زادوا في غيِّهم.

3- أن الإسراء والمعراج معجزة خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم تكن لغيره من الأنبياء.

4-  كانت الرحلة مرحلة فاصلة في التاريخ من انتقال القيادة الدينية من أمة بني إسرائيل نسل إسحق إلى نسل إسماعيل في أمة محمد، ومن بيت المقدس إلى مكة المكرمة.

5- هي إعلان وإعلام بانتقال ميراث الرسل جميعًا إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم  صاحب الرسالة الممتدة والخاتمة لهم جميعًا عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم.

6- هي إعلان وإعلام للمشركين ومن سكن بيت المقدس من النصارى حينها أنها ميراث نبوي لمحمد صلى الله عليه وسلم  ومن تبعه، وسيأتون لاستلام مفاتيحها ولو بعد حين، وكان ذلك في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

7- لو كان الإسراء رؤيا في المنام لما كان فيه فضل ولا فضيلة.

8- وقت الإسراء ليلًا دون النهار حكمة يجب التأمل فيها.

9- إنكار حادثة الإسراء كفر باتفاق.

10- إيمان أبي بكر وثقته المُطلَقة بالنبي صلى الله عليه وسلم  وثباته على المبدأ، دون أن يزعزه شيء كانت سببًا بوصفه تشريفا له بالصديق.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك


X