رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: جهاد العايش 15 مارس، 2016 0 تعليق

الأربعون الفلسطينية الْحَدِيثُ التاسع- النَّبُيُّ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم يَخْتَارُ الْفِطْرَةَ فِي الْمَسْجِدِ الأَقْصَى

يجلي لنا النبي صلى الله عليه وسلم : في هذا الحديث مشهدا من أبرز مشاهد زيارته لبيت المقدس، وفيه استعرض لقيا بعض من أنبياء الله عيانا بأشخاصهم وأوصافهم الحقيقية

كتاب الأحاديث الأربعون الفلسطينية، وثيقة نبوية تؤكّد ارتباط الأرض المقدسة فلسطين برسالة التوحيد عبر الأزمان كلها أولها وأوسطها وآخرها ، إنها أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم التي تشد العالمين إلى أرض فلسطين، إنها زبدة أحاديث سيد المرسلين حول فلسطين وأهلها , صحيحة صريحة تبعث فينا الأمل والجرأة في الحق، وصدق اليقين، ولقد لقي متن  كتاب: (الأحاديث الأربعون الفلسطينية) قبولا واسعا؛ فقد تدافع كثيرون إلى ترجمته إلى لغاتهم, فاستحق أن يكون لهذا المتن شرح يليق به، وها نحن أولاء نشرح هذه الأحاديث في هذه السلسلة المباركة، واليوم مع شرح الحديث التاسع:

     عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ليلةَ أُسريَ  بي، وفي رواية : به بإيلياء «رأيتُ موسى وإِذا هو رجلٌ ضَرْبٌ رَجِلٌ كأنهُ مِن رِجالِ شنُوءَة، ورأيتُ عيسى فإذا هو رَجلٌ رَبعةٌ أحمرُ,  كأنما خَرج من ديماس, وإنَّه أشبَه ولدِ إبراهيم به. وفي رواية: قال: ورأيت إبراهيم -صلوات  الله عليه- وأنا أشبه ولده به, ثُمَّ أُتيتُ بإِناءيْنِ فِي أحدهما لَبَنٌ وفي الآخَر خَمْرٌ فقال: اشرب أيَّهما شئْتَ، فأخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتهُ، وفي رواية عن أبي هريرة: فنظر إليهما  فأخذ اللبن, قال جبريل الحمد لله الذي هداك للفطرة «فَقيلَ: أخذتَ الفِطرةَ، أما إِنَّكَ لَو أخذت الْخَمْرَ غَوَتْ أمَّتكَ».

 شرح الحديث:

     يجلي لنا النبي صلى الله عليه وسلم : في هذا الحديث مشهدا من أبرز مشاهد زيارته لبيت المقدس، وفيه استعرض لقيا بعض من أنبياء الله عيانا بأشخاصهم وأوصافهم الحقيقية، وفيه قدمت له ضيافة كانت بين الخمر واللبن بوصفه اختباراً له فاختار اللبن بوصفه علامة وإشارة إلى الإسلام الهادي إلى  الفطرة السليمة، وكل ذلك على مشهد من أنبياء الله وحضورهم هذا الترشيح  التاريخي لمحمد ,  باختياره فطرة الإسلام في بيت المقدس، والحمد لله رب العالمين على نعمة الإسلام . 

قوله : ليلةَ أُسريَ  بي  : أسري: السرى ، السّيْر بالليل.وقد سبق التفصيل فيها .

قوله: رأيتُ موسى وإِذا هو رجلٌ ضَرْبٌ: بفتح المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة أي نحيف. قال القاضي عياض: هو الرجل بين الرجلين في كثرة اللحم وقلته .

     قوله: رَجِلٌ: مسرح شعره ومنظفه ومحسنه.  «بفتح الراء وكسر الجيم أي دهين الشعر مسترسله: وقال ابن السكيت : شعر رجل أي غير جعد . أي مسرِّح الشعر مسترسله، وهو بالرفع على القطع، أي: هو رجل، وعند الأصيلي بالرفع والخفض،  ووجه الخفض أن الرَّجلَ غير السَّبط المنفي عن صفة  شعره صلى الله عليه وسلم , يقصد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم  ويحتمل الخفض على الجوار على بعد , قال صاحب مرآة الزمان : الجيم ساكنة من (رجل الشعر) وحكى الجوهريُّ عن ابن السكيت لغتين غير هذه: أحدهما : بفتح الراء وكسر الجيم. والثانية: فتح الراء والجيم، إذا لم يكن شديد الجعودة و لا سَبِطًا

شعرٌ رَجَلٌ ورَجِل ورَجْلٌ بَيْنَ السُّبوطة والجعودة، وفي صفته كان شعره رَجِلًا، أَي لم يكن شديد الجعودة، ولا شديد السبوطة بل بينهما

     قوله: كأنهُ مِن رِجالِ شنُوءَة :  بالفتح، ثم الضم، وواو ساكنة، ثم همزة مفتوحة، وهاءٍ، أي  في طوله وسمرته, وشنوءة قبيلة من قحطان . وهي مخلاف باليمن بينها وبين صنعاء اثنان وأربعون فرسخًا، تنسب إليها قبائل من الأزد  وهو حيٌّ منَ اليمنِ ينسبونَ إلَى شنُوءَةَ وهوَ عبدُ اللَّهِ بنُ كعبِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ مالكِ بنِ نضرِ بنِ الأَزْدِ ولُقِّبَ شَنُوءَةَ لِشَنَآنٍ كانَ بينهُ وبينَ أهلِهِ

قال: القزاز: واختلفت الرواية ، هل هو جعد أو سبط، وهل هو ضرب نحيف أو جسيم سموا بذلك من قولك رجل فيه شنوءة أي تفرق، يقال: سموا بذلك؛ لأنهم تشانؤوا وتباعدوا .

غير أن البخاري روى في موضع آخر صفة لموسى -عليه السلام- خلاف هذا الوصف: «وأما موسى فأدم جسيم سبط كأنه من رجال الزُّط»

والزُّط. قبلية من اليمن، يقال لهم: أزد شنوءة وهي لغة: التباعد عن الأدناس, لعلهم لُقِّبوا بذلك لطهارة نسبهم وحسن سيرتهم

     وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم  موسى مرتين مرة في بيت المقدس كما هو في حديث الباب، ومرة في طريقه إلى بيت المقدس كما جاء في حديث أَنَسِ بنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم  قَالَ: «مَرَرْتُ» (وَفِي رِوَايَةِ هَدَّابٍ): «أَتَيْتُ»،  عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ». وبذلك يكون النبي صلى الله عليه وسلم  رأى موسى في رحلته هذه ثلاث مرات: في قبره عند الكثيب الأحمر والثانية في المسجد الأقصى لما صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم  إمامًا، والثالثة: في السماء.

قوله: ورأيتُ عيسى فإذا هو رَجلٌ رَبعةٌ: رجل ربعة:  بفتح الباء، وإسكانها ،ومربوع أي  بين الطويل  والقصير .

قوله : أحمرُ : وصف عيسى عليه السلام في هذا الحديث أنه «أحمر «وفي حديث آخر أنه (آدم), وقد وفق ابن حجر رحمه الله بين الروايتين فقال: الأحمر عند العرب الشديد البياض , والآدم الأسمر, ويمكن الجمع  بين الأمرين بأنه أحمر لونه بسبب التعب, وهو في الأصل أسمر .

وقد روى البخاري عن ابن عمر  أنه أنكر رواية أحمر وحلف أن النبي صلى الله عليه وسلم  لم يقله يعني وأنه اشتبه على الراوي فيجوز أن يتأوَّل الأحمر على الآدم، ولا يكون المراد حقيقة الأدمة والحمرة، بل ما قاربها. والله أعلم.

غير أن الشيخ ناصر الدين الألباني يرى أن:  الأحمر  هو الأشقر ، وآدم يعني أسمر، وهذا تناقض؛ فلعله ليس المراد حقيقة الأدمة  والحمرة ، بل ما قربهما.

وللشيخ محمود عطية توفيق آخر بين الروايتين قال: «رأى رسول الله ليلة الإسراء عيسى يقظة، ورآه يطوف بالكعبة منامًا، وفي هذه الحالة, فإن وصف رسول الله لعيسى  يقظة مقدم على وصفه لهم منامًا»

قلت: غير أني أفهم أن رؤيا الأنبياء حق وأن ما أشار له الشيخ عطية يفهم منه أن ما رآه النبي في المنام مشكوك فيه ملتبس عليه ، غير أن النبي لم يشر إلى هذا الالتباس أو شكَّ في الحالتين وما ذهب إليه ابن حجر قريب من المعقول، والله أعلم.

     قوله : كأنما خَرج من ديماس: الديماس  بفتح الدال وكسرها: الحمام  بلغة الحبشة، أراد اشراقة لونه ونضارته, وقال الخطابي: الديماس: السَّرَبَ يقال دمست الرَجُلَ اذا قبرتُه،  وأراد في نضرة  وجهه وحسنه كأنه خرج من كِنٍّ. وقال الجوهري: لأنه قال في وصفه: كأن رأسه  يقطر ماء

وذكر صاحب المطالع الأقوال الثلاثة فيه فقال: الديماس: قيل هو السرب ، وقيل الكن، وقيل الحمام، هذا ما يتعلق بالديماس. وأما الحمام فمعروف وهو مذكر باتفاق أهل اللغة.  والله أعلم.

قوله: وإنَّه أشبَه ولدِ إبراهيم به، (وفي رواية: قال: ورأيت إبراهيم صلوات  الله عليه، وأنا أشبه ولده به): قوله: (وأنا أشبه ولد إبراهيم به) أي الخليل، وزاد مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر ورأيت جبريل فإذا أقرب الناس به شبها دحية .

     قوله: ثُمَّ أُتيتُ بإِناءيْنِ فِي أحدهما لَبَنٌ وفي الآخَر خَمْرٌ فقال: اشرب أيَّهما شئْتَ، فأخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتهُ،  فَقيلَ: أخذتَ الفِطرةَ: «أخذتَ الفطرةَ»: أي التي فطر الناس عليها، وفي هذا القول له عند أخذ اللبن لطف ومناسبة، فإن اللبن لما كان في العالم الحسي ذا خلوص وبياض ، وأول ما يحصل به تربية المولود صيغ في عالم القدسي مثال الهداية والفطرة التي يتم بها تربية القوة الروحانية؛ لأن العالم القدسي قد تصاغ فيه الصور من العالم الحسي لإدراك  المعاني. قال النّووي: فسّروا الفطرة هنا بالإسلام والاستقامة.

قوله: أما إِنَّكَ لَو أخذت الْخَمْرَ: أما: كلمة تنبيه.إنّك: بكسر الهمزة «لو أخذت الخمر» بدل اللبن. غوت: أي ضلَّت، فإنَّ الخمر لكونها ذات تلف ومفسدة صيغ منها مثال الغواية وما يفسد الروحانية».

قوله: غَوَتْ أمَّتكَ: غوت: والتغاوي هو التجمع والتعاون على الشر, وأصله  من الغواية أو الغي.و(الغَيُّ) الضلال والخيبة أيضا .

      وجاء في رواية أخرى من حديث  أنس بن مالك -رضي الله عنه-  أن الذي جاء وقدم له هذه الضيافة هو جبريل -عليه السلام-: «ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، وجاء  في رواية أخرى أنه عرض على النبي  مرة في السماء آنية فيها لبن وعسل أو لبن وماء أو لبن وخمر, ولا أظن أن في ذلك تناقضاً، بل هو  ترحيب وضيافة للنبي يستحقها  حيث حلّ، كان في السّماء أم في بيت المقدس, وفيه تأكيد على استقامة الفطرة التي اختارها النبي في الأرض وفي السماء، والله أعلم .

قال الألباني: كذا وقع في هذه الطريق ذكر الإناءين هنا قبل المعراج، ووقع في الطريق المتقدمة، بعد المعراج عند سدرة المنتهى ولكل منهما شواهد ذكرها في (الفتح) (10 / 73) .

وجعل اللبن علامة لكونه سهلًا طيبًا طاهرًا سائغًا للشاربين سليم العاقبة. وأما الخمر فإنها أم الخبائث، وجالبة لأنواع من الشر في الحال والمآل. والله أعلم .

 من فوائد الحديث :

1- اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للَّبن، هو تأكيد على استقامة فطرته وسلامتها ونجاحه في هذا الاختبار.

2- وفي الحديث دليل على بشرية أنبياء الله و أن لهم أطوالاً وألواناً وأشباهاً بسائر البشر وقبائلهم .

3- جعل الخمر علامة على الفطر المنتكسة وعلى سائر الفواحش والخبائث بل أما لها.

4- كان من تشريف  النبي واحترامه  أن قدمت له الضيافة في المسجد الأقصى.

5- كان المسجد الأقصى منبر تدشين مشروع الإسلام للعالمين, وبحضور أنبياء الله أجمعين.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك