رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: جهاد العايش 4 أكتوبر، 2016 0 تعليق

الأربعون الفلسطينية الْحَديثُ العشرون- طاعون الشام شهادة لأمة النبي محمـد صلى الله عليه وسلم ورجس على الكافـرين

المدينة حرمها النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر عن نفسه فقال: «إِنِّى حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لاَبَتَي الْمَدِينَةِ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ»

 

كتاب الأحاديث الأربعون الفلسطينية، وثيقة نبوية تؤكّد ارتباط الأرض المقدسة فلسطين برسالة التوحيد عبر الأزمان كلها أولها وأوسطها وآخرها، إنها أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم التي تشد العالمين إلى أرض فلسطين، إنها زبدة أحاديث سيد المرسلين حول فلسطين وأهلها، صحيحة صريحة تبعث فينا الأمل والجرأة في الحق، وصدق اليقين، ولقد لقي متن كتاب: (الأحاديث الأربعون الفلسطينية) قبولا واسعا فقد تدافع كثيرون إلى ترجمته إلى لغاتهم، فاستحق أن يكون لهذا المتن شرح يليق به، وها نحن أولاء نشرح هذه الأحاديث في هذه السلسلة المباركة، واليوم مع شرح الحديث العشرون:

     عن أبي عسيب رضي الله عنه مولى رسول الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتـاني جبرائيـلُ بالـحُـمَّى والطَّاعُــــونِ، فأَمْسَكْــتُ الحُـمَّـى بالـمـديـنـةِ، وأَرْسلْتُ الطاعونَ إلى الشامِ، فالطاعُونُ شَهَادَةٌ لأُمَّتي وَرَحْمَةٌ (وفي رواية أنس: شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ)، وَرِجْسٌ عَلَى الْكَافِرِ».

شرح الحديث:

     يظهر هذا الحديث للقارئ للوهلة الأولى وكأنه نقمة وعذاب الله في عباده مؤمنهم وكافرهم، لكنه في الحقيقة رحمة للمؤمن وعذاب للكافر.

- قوله: أتـاني جبرائيـلُ بالـحُـمَّى والطَّاعُــــونِ: أخبره -الله تعالى- أنه لابد في هذه الأمة من الطاعون والحمَّى، وأن يختار لبلديه الشام والمدينة ما يناسبها.

     فأَمْسَكْــتُ الحُـمَّـى بالـمـديـنـةِ: الحمى حرارة، غريزية، تشتعل في القلب وينبث منه بتوسط الروح والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن فيشتعل منه اشتعالاً يضر بالأفعال الطبيعية.

     أمسك واختار  صلى الله عليه وسلم الحمى على الطاعون؛ لأنَّ الحمى أخف ألماً، والطاعون يعم وينتشر ويهلك في أسرع الوقت.

     فكان اختيار النبي صلى الله عليه وسلم الحمى للمدينة رحمة بأصحابه، وأنها خالية من الكفار، وأنها أي الحمى أخف عليهم وطأة، ويمكن الشفاء منها وأنها ليست كالطاعون تقضي على الناس وتفنيهم وتستأصل شأفتهم، فأصحابه صلى الله عليه وسلم هم من سينقلون رسالته في العالمين في حياته ومن بعده فاختار لهم صلى الله عليه وسلم في المدينة الأقل ضررا عليهم وعلى الدعوة، كما أنها حظ المؤمن من نار الآخرة.

     فاختار للمدينة الأخف، وأرسل الآخر إلى الشام؛ لأنها لا تخلو من كافر، فتكون عليه رجسًا، بخلاف أهل المدينة فإنهم مؤمنون لا يسكنها معهم كافر.

     ذكر ابن حجر العسقلاني رحمه الله: «الحكمة في إمساك الحمى بالمدينة وإرسال الطاعون إلى الشام، أنه صلى الله عليه وسلم لمَّا دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددًا ومددًا، وكانت المدينة وبئة كما سبق من حديث عائشة، ثم خُير النبي صلى الله عليه وسلم في أمرين يحصل بكل منهما الأجر الجزيل، فاختار الحمَّى حينئذ لقلة الموت بها غالبًا، بخلاف الطاعون، ثم لمَّا احتاج إلى جهاد الكفار، وأذن له في القتال كانت قضية استمرار الحمى بالمدينة تضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة، فعادت المدينة أصح بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك، ثم كانوا حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمَّى التي هي حظ المؤمن من النار، ثم استمر ذلك بالمدينة تمييزًا لها عن غيرها؛ لتحقق إجابة دعوته، وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره هذه المدة المتطاولة، والله أعلم».

     قال الحافظ: هذا يدلّ على أنّه اختارها على الطَّاعُون وأقرها بالمدينة ثمّ دعا اللَّهَ فَنقَلَها إِلى الجُحفة وبقيت منها بقايا، ولا يعارضه الدُّعاء برفع الوباء عنها لِنُدرة وُقُوعه فيها بخلاف الطَّاعون لم ينقل قَطُّ أنّه وقع بها.

     وهو مصداق ما أخبر به أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ الْمَسِيحُ وَلا الطَّاعُونُ».

     ونقل صاحب مصابيح الجامع عن كتاب (المعارف) لابن قتيبة: لم يقع في المدينة ولا بمكة طاعون قط، قال ابن الملقن: أما المدينة فنعم وأما مكة، فدخلها سنة تسع وأربعين وسبع مئة.

سبب تسميتها بالمدينة المنورة:

     وهي المدينة النبوية أو المنورة، وسميت بالمنورة، وذلك لما جاء عن أنس بن مالك قال: «لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ... » وقدجاء ذكرها في القرآن الكريم في أربعة مواطن.

حدود المدينة المنورة:

- أما عن حدها: جاء مفسرًا في حديث عنه صلى الله عليه وسلم : «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ...»، وهي الحدود الشمالية والجنوبية لها وهي:

     من جهة الجنوب عير:وهو جبل مستقيم القمة على امتداد جنوب المدينة بينه وبين مركز المدينة ثمانية كيلومترات تقريبًا، ومن جهة الشمال ثور: جبل صغير يقع خلف أحد وجبل أحد يدخل ضمن حدود الحرم، وبين صلى الله عليه وسلم حدودها من الجهة الشرقية والغربية فقال: «مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حَرَامٌ»، ومن جهة الشرق: حرة واقم، وتعرف حاليًا بالحرة الشرقية، ومن جهة الغرب: حرة الوبرة وتعرف حاليًا بالحرة الغربية.

المدينة حرم:

      وهي حرم حرمها النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر عن نفسه، فقال: «إِنِّى حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لاَبَتَي الْمَدِينَةِ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ». وكما أخبر أنس عن عاصم -رضي الله عنهما- قال: قلت لأنس: أحرَّم رسول الله المدينة؟ قال: نعم، ما بين كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها، من أحدث فيها حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وقال صلى الله عليه وسلم : «مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا حَرَامٌ».  أَي لا يسفكُ بها دمٌ لبشر في حرب، ولا لحيوان في صيد، ولا يُعضَدُ بها شجرة، ولا ينفّر صيدها. قوله: وأَرْسلْتُ الطاعونَ: (الطاعون) من الطعن، عدلوا به عن أصله ووضعوه دالاً على الموت العام كالوباء، قال أبو بكر بن العربي: الطاعون الوجع الغالب الذي يطفئ الروح كالذبحة سمي بذلك لعموم مصابه وسرعة قتله، قال صاحب النهاية، الطاعون: المرض العام والوباء الذي يفسد له الهواء فتفسدُ به الأمزجة والأبدان. ويتأولها صاحب النهاية أنه صلى الله عليه وسلم أراد أنّ الغالب على فناء الأمّة بالفتن التي تُسفك فيها الدّماء، وبالوباء.

     إلى الشامِ: اختار النبي صلى الله عليه وسلم ارسال الطاعون إلى الشام، لاختلاطها بالمؤمنين فيكون شهادة لهم، والكفار فيكون عليهم رجسا.

معنى كلمة الشام:

     جاءت عند العرب بفتح الهمزة وسكونها، وشآم بهمزة بعدها مدة، والشام يُذكَّر ويؤنث، ورجل شامي أيضاً حكاه سيبويه، وفي تسميتها بذلك ثلاثة أقوال: - أحدها: أنها سميت بسام بن نوح، لأنه أول من نزلها فجعلت السين شيناً تغييراً للفظ الأعجمي، والثاني: أنها سميت بذلك لكثرة قراها وتداني بعضها من بعض فشبهت بالشامات، والثالث: أنها سميت بذلك لأن باب الكعبة مستقبل المطلع، فمن قابل طلوع الشمس كانت اليمن عن يمينه والشام عن يده الشؤمى يدل على الجانب اليسار أي لأنها من مشأمة القبلة. من ذلك المشأمة، وهي خلاف الميمنة، والشام الإقليم الشمالي الغربي من شبه جزيرة العرب. والشام بالسريانية:الطيّب، فسميت بذلك لطيبها وخصبها.

حدود بلاد- إقليم- الشام:

     والشام إقليم يبدأ من تخوم مصر نحو الشمال إلى بلد الروم فيقع بين بحر الروم- بحر الأبيض المتوسط - وبادية العرب ويتصل البادية وبعض الشام بجزيرة العرب.

     وبتعريف أكثر دقة «فمن الفرات إلى العريش المتاخم للديار المصرية، وأما عرضها فمن جَبَلَي طَيِّئ من نحو القبلة إلى بحر الروم» وهو البحر المتوسط. وبين ابن حبان في صحيحه مكانها من جهة الفرات فقال: «أول الشام بالس وآخره عريش مصر».

      جاء عن كعب الأحبار ذكره لحدود الشام وما خص منها بالتقديس: إن الله بارك في الشام من الفرات إلى العريش، وخَصَّ بالتَّقديس من فَحصِ الأردُنّ إلى رَفَح. وسئل ابن قتيبة عن معنى قوله هذا فأجاب: فَحْصُ الأردُن؛ حيث بُسِط منها وذُلِّل منها ولُيِّنَ وكُشف، كأن الله فعل ذلك بهذا المكان، ومنه يقال: فَحصتُ عن الأمر: أي كشفت عنه، وأُفحوصُ القطاةِ مجثمُها لأنها تفحص عنه.

     وجاء في كتاب البلدان لشمس الدين الذهبي، حدود الشام: إنه من الغرب: البحر الرومي، ومن الجنوب: رمل مصر والعريش، ثم تيه بني إسرائيل وطور سيناء، ثم تبوك، ثم دومة الجندل، ومن الشرق: بريّة السماوة، - وهي كبيرة ممتدة إلى العراق ينزلها عرب الشام -. ومن الشمال: مما يلي الشرق: الفرات إلى بلاد الجزيرة – ويعني إلى البحر المالح. وأما حدوده كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي الأغبش، وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه سئل عما بورك من الشام أين مبلغ حده؟ فقال: أول حدوده عريش مصر، والحد الآخر طرف الثنية، والحد الآخر الفرات، والحـد الآخر جـعل فيه قبر هود النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس المراد بها ما هو متعارف الناس اليوم أعني دمشق، نعم هي داخلة. اهـ

     ولما كان هذا المصطلح حاضرًا في كثير من أحاديث هذا الكتاب أسهبنا في شرحه والتعريج على ما جاء له من أسماء أخرى دلت على شرفه وعلو مكانته.

     قوله: فالطاعُونُ شَهَادَةٌ لأُمَّتي: وفي رواية أنس: شهادة لكل مسلم، أي المصاب به من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يكون له أجر شهيد إن مات به.

قوله:وَرَحْمَةٌ:لأنه يكون به – أي الطاعون - للمؤمن أجر الشهداء، أو لأنه يسرع بالمؤمنين إلى رحمة الله ومغفرته.

     فقد تميز بخصوصيته لأمة محمد صلى الله عليه وسلم كونه رحمة لهم دون غيرهم، على أن يكون المبتلى به صابراً كما جاء لفظه من حديث عائشة أنها قالت: «سألت رسول الله عن الطاعون فأخبرني أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا مثل أجر شهيد»، أي محتسبًا راضيًا بقضاء رب الأرباب الله سبحانه وتعالى، ومن غير فرار منه وهو شرط لحصول أجر الشهادة الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم . وَظَاهره يَشْمَل الْفَاسِق، والله أعلم.

     فقد جاء عن عمرو بن العاص أنه قال: تفرقوا في هذا الرجز في الشعاب والأودية ورؤوس الجبال، فبلغ معاذًا فأنكره وقال: بل هو شهادة ورحمة ودعوة نبيكم، وبه قال صاحب الإفصاح: «من الفقه أن الموت بالطاعون شهادة لمن مات به».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك