رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: جهاد العايش 19 يوليو، 2016 0 تعليق

الأربعون الفلسطينية الْحَديثُ السادس عَشْر (2) ما علاقة المسجد الأقصى بما يسمى بهيكل سليمان الأول؟

الأمم التي تعاقبت على مدينة القدس جميعها توارثت تقديس بقعة المسجد الأقصى، وأصبح هذا المكان نوعا من أنواع الولاء العقدي لهذه البقعة

 

كتاب الأحاديث الأربعون الفلسطينية، وثيقة نبوية تؤكّد ارتباط الأرض المقدسة فلسطين برسالة التوحيد عبر الأزمان كلها أولها وأوسطها وآخرها، إنها أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم التي تشد العالمين إلى أرض فلسطين، إنها زبدة أحاديث سيد المرسلين حول فلسطين وأهلها، صحيحة صريحة تبعث فينا الأمل والجرأة في الحق، وصدق اليقين، ولقد لقي متن كتاب: (الأحاديث الأربعون الفلسطينية) قبولا واسعا فقد تدافع كثيرون إلى ترجمته إلى لغاتهم، فاستحق أن يكون لهذا المتن شرح يليق به، وها نحن نشرح هذه الأحاديث في هذه السلسلة المباركة، واليوم نستكمل شرح الحديث السادس عشر:

- ما علاقة المسجد الأقصى بما يسمى بهيكل سليمان الأول؟

- تبدأ قصة ما يُسمى بهيكل سليمان الأول في عهد نبي الله سليمان بن داود -عليهما السلام- فقد نسب اليهود ما قام به سليمان من بناء التجديد والتطوير للمسجد على أنه هو هيكل يهودي وسمَّوه (بهيكل سليمان الأول)، وتغافل هؤلاء البُهت عن نصوص القرآن والسنة ودواوين التاريخ ومعالم الآثار.

إنّ ما ينسبه اليهود إلى سليمان من بناء، إنه - وبلا شك - هو المسجد الأقصى، وليس هيكلًا يهوديًا، وأن ما قام به سليمان هو تجديد للمسجد الأقصى على أصل سابق له لا ابتداء في البناء من عدم.

ومعلوم أَنَّ إبراهيم هو الذي رفع قواعد الكعبة، فقد يكون كذلك قد رفع قواعد المسجد الأقصى؛ لأن الفترة بين بناء المسجدين كما جاء في الحديث هي أربعون عامًا ولا مانع أن تكون في زمن إبراهيم أو ولده من بعده.

     وهذا يعني أنّ أول من رفع قواعد الكعبة هو إبراهيم، وأن أول من رفع قواعد المسجد الأقصى هو إبراهيم؛ ومما يدلل على اعتناء إبراهيم -عليه السلام- بالمسجدين والموطنين معًا مكة وبيت المقدس أنه قد اتخذ زوجة وولدًا له في بيت المقدس سارة وولدها إسحق، وهاجر وولدها إسماعيل -عليهم السلام- في مكة المكرمة، وكان دائم التنقل بينهما على البراق كما ورد في بعض الآثار.

وقيل في بناء التأسيس هو من عمل الملائكة أو آدم، وقيل كذلك هو من بناء يعقوب أو إبراهيم -عليهم السلام- جميعًا، وعلى كل حالٍ لم يثبت بالسند الصحيح الباني الحقيقي للمسجد الأقصى، والله أعلم.

وعند السيوطي: «ورد أن واضع المسجدين آدم؛ وبه يندفع الإشكال بأن إبراهيم بنى المسجد الحرام وسليمان بنى بيت المقدس وبينهما أكثر من أربعين عامًا بلا ريب فإنما هما مجددان».

وبهذا يتضح القول أنّ المسجد الأقصى هو موضع وضعه الله ابتداءً لعباده المؤمنين وقبل دخول بني إسرائيل وأنبياء بني إسرائيل أرض فلسطين وإنّ سليمان لم يبتدئ وضع المسجد أو ما يعبرون عنه بالهيكل، بل عمل على تجديد البناء السابق.

     وهذا يدلل على اعتناء أنبياء الله بالمسجد الأقصى؛ فكلما جاء نبي أسهم في رعاية المسجد من ترميم ودعوة وما لزمه من أمر، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما جاء إليه في حادثة الإسراء والمعراج لم ينشغل في عمارته وترميمه، لكنه جاء به الله ليؤكد علاقته به، مع أنه حينها كان محتلًا من قبل الروم، وترك ذلك لمن بعده من الصحابة.

     إنّ ما جرى على أقلام بعض المؤرخين من أنّ سليمان بنى معبدًا؛ فهذا لا ينفي أن يكون هذا المعبد هو نفسه المسجد الأقصى، بدلالة الحديث السابق، وإلا فكيف لهم التقول على سليمان نبي الله الذي سخر الله له من القوة ما لم يسخر لأحد من قبله ولا من بعده كما طلب هو من المولى: إِنّ سليمان بن داود -عليهما السلام- لما بنى بيت المقدس «وفي رواية: لما فرغ من بناء مسجد بيت المقدس» سأل الله -تعالى- خلالاً ثلاثةً: سأل الله -تعالى- حكمًا يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله -تعالى- ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه. لقد مكن الله -تعالى- نبيه سليمان من أسباب القدرة الخارقة التي لم تمكن لأحد من قبله ولا من بعده.

     فتجديد سليمان للمسجد الأقصى هذا البناء العظيم الذي جاء وصفه في كتب التاريخ والعهدين القديم والجديد، وصفًا لحاله أثناء اعتداء بختنصر البابلي وسرقة ما فيه من ذهب وممتلكات مهمة وثمينة، ولا أظن أن ما جاء في وصف تخريب بختنصر من هدم وحرق وسرقة للموجودات التي وصفت بالعظمة، مبالغ فيه؛ لأنه في حقيقة الأمر هو من نتاج ما سُخِّرَ لنبي الله سليمان الذي أُعطِي من قوة تمكنه من تجديد بناء المسجد الأقصى بطريقة لا يمكن لأحد أن ينافسه فيها.

     إِنّ الأمم والدول والإمبراطوريات التي تعاقبت على مدينة القدس جميعها وبلا استثناء قد توارثت تقديس بقعة المسجد الأقصى، وأصبح هذا المكان نوعا من أنواع الولاء العقدي لهذه البقعة، كما يظهر من هياكل وأصنام ومعبودات هذه الأمم التي اتخذت من ساحات المسجد الأقصى قبلة لهم أو محلاً لأوثانهم وهياكلهم.

     فهل يُعْقَل من نبي الله سليمان، أن يبني معبداً كما ينقل اليهود بأوصاف تفوق الخيال لمعبد غير المسجد الأقصى، وفي مكان آخر؟! إن كان كذلك فأين هو؟ وأين آثاره التي يبحثون عنها مذ زمن تجاوز العقود الأربعة؟ لكنهم يؤكدون للمراقب لنتاجهم أنهم يبحثون عن سراب!

     ولم نر في جميع النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ما يشير إلى بناء غير المسجد، جاء في الحديث الصحيح، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «قلت يا رسول الله أيّ مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قال: قلت: ثم أيّ؟ قال المسجد الأقصى، قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم أينما أدركت الصلاة بعد فصله فإن الفضل فيه».

     إِنَّ دعوى اليهود بناء سليمان معبدًا خارج أسوار المسجد الأقصى هي دعوى غبية سمجة ومستبعدة جدًا، لم تقم على شرع ولا على دليل من التاريخ إلا إذا كان هذا المعبد في أكناف بيته -أي بمثابة محراب أو مصلى خاص به- ومنطلقنا أنه ليس من نبي الله سليمان ولا يعقل أن يتجاوز قدسية بقعة المسجد الأقصى التي توارثها الأنبياء وحرصوا عليها جيلًا بعد جيل ليبحث عن مكان ليس له مكانة شرعية.

     كما أنه لم يأت في شرعنا ما يدلل على أن سليمان بنى معبدًا سوى المسجد الأقصى، بل جاءت آيات كتاب الله القرآن الكريم على غير ما يشتهي اليهود في قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} (سبأ: ١٣) أي المساجد والأبنية المرتفعة وكان مما عملوا له بيت المقدس، ابتدأه داود ورفعهُ قدر قامة رجل، فلما توفاه الله استخلف ابنه سليمان قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} ( النمل: ١٦) فقام على إتمام بناء بيت المقدس فجمع الجن والشياطين وقسَّم عليهم الأعمال، ولا خلاف في أنّ سليمان بنى مسجداً في بيت المقدس.

     وأكد -سبحانه وتعالى- حقيقة المسجد الأقصى اسمًا ومسمى، في مطلع سورة الإسراء؛ حيث قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (الإسراء: 1) وقد أرسل الله رسوله بروحه وجسده بمعجزة حارت فيها عقول العرب؛ ليؤكد صحة الخبر وليشاهده عيانًا أنه هو ذلك المسجد الذي بنته الأنبياء، وعمرته بعبادة التوحيد جيلًا بعد جيل، بل جاء الأمر أشد تأكيدًا لما جمع له صلى الله عليه وسلم  كل أنبياء الله عبر التاريخ ليكون ذلك بمثابة الرد القاصم على من يدعي أن سليمان بنى هيكلًا ومعبدًا غير المسجد الأقصى.

ونقول لليهود: إن البينة على من ادعى، فهم مطالبون أن يثبتوا لنا صحة دعواهم بالسند الصحيح المتصل!

وأما ما جاء دليله في سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من روايات هي أوضح من الشمس في رابعة النهار لتؤكد أنّ ما قام به سيدنا سليمان -تعالى- من بناء هو مسجد لا غير.

     فقد أخرج النسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس - وفي رواية: (من بناء المسجد) سأل الله ثلاثاً: حكمًا يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون أعطي الثالثة».

     وإن رغبوا عن دليلنا من سنة النبي فليستمعوا -إن كانوا منصفين- إلى ما قاله ابن العبري: «مؤكد أن ما قام به سليمان هو بناء المسجد، في السنة الرابعة من ملكه – أي سليمان شرع في بناء بيت المقدس وهو المعروف بالمسجد الأقصى في جبل الأموريين في أندران اليبوسي... وتممه في سبع سنين».

نعم إن ما قام به نبي الله سليمان هو بناء التجديد والتطوير والتوسعة لا بناء التأسيس، وقـد بقي بناء سليمان أي المسجد الأقصى بفخامته وروعته عامراً مدة (500) عام تقريباً إلى أن خرّبَه (نبوخذ نصر) البابلي سنة (589) ق.م.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك