الأربعون الفلسطينية (الْحَديثُ السادس وَالثَّلاثُون)(2) الدَّجَالُ يَسْأَلُ عَنْ نَخْل بيسان وَبُحَيْرَة طَبَرِيَّةٍ فِي فِلَسْطِينِ
كتاب الأحاديث الأربعون الفلسطينية، وثيقة نبوية تؤكّد ارتباط الأرض المقدسة فلسطين برسالة التوحيد عبر الأزمان كلها أولها وأوسطها وآخرها، إنها أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم التي تشد العالمين إلى أرض فلسطين، إنها زبدة أحاديث سيد المرسلين حول فلسطين وأهلها، صحيحة صريحة تبعث فينا الأمل والجرأة في الحق، وصدق اليقين، ولقد لقي متن كتاب: (الأحاديث الأربعون الفلسطينية) قبولا واسعا فقد تدافع كثيرون إلى ترجمته إلى لغاتهم، فاستحق أن يكون لهذا المتن شرح يليق به، وها نحن أولاء نشرح هذه الأحاديث في هذه السلسلة المباركة، واليوم نستكمل شرح الحديث السادس والثلاثون:
عن فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- أن نبي الله صعد المنبر فضحك فقال: «إنَّ تميمًا الداري حدثني بحديث، ففرحت، فأحببت أن أحدثكم: إن ناسًا من أهل فلسطين ركبوا سفينة في البحر»، (وفي رواية: أن ركبًا ركبوا بَحر الشام في نَفَر من لَخم وجذام)، فَجالت بهم حتى قذفتهم في جزيرةٍ من جزائرِ البحرِ، فإذا هم بِداَبةٍ، لبَّاسةٍ، ناشرة شعرها، فقالوا: ما أَنتِ؟ قالت: أنا الجسَّاسَةُ قالوا: فأخبرينا، قالت: لا أخبرُكُم ولا أَستَخْبِرُكُم، ولكن ائتوا أقصى القرية، فإنَ ثَمَّ مَنْ يُخبِرُكم ويَستخبِرُكُم، فَأتيْنا أقصى القريةَ، (وفي رواية: فانطلقنا سراعًا حتى دخلنا الدير)، فإذا رجل موثَق بِسِلسلة، فقال: أَخبِروني عَن عَيْنِ زُغَر، قلنا: مَلأى تَدْفِقُ، (وفي رواية قال: فما فعلت العرب أيش لباسهم؟ قلنا: صوف وقطن تغزله نساؤهم قال: فضرب بيديه على فخذه، ثم قال: هيهات) قال: أخبروني عن البُحيرة، قلنا: ملأى تدفق، (وفي رواية: قال: أما إنَّ ماءها يوشك أن يذهب)، قال: أخبروني عن نَخل بَيْسان، الذي بين الأردن وفلسطين، هل أَطعم؟ قلنا: نعم، (وفي رواية: قال: أما إنها توشك ألا تثمر) قال: أخبروني عن النبي، هل بعث؟ قلنا: نعم، قال: أخبروني كيف الناس إليه؟ قلنا: سِرَاعٌ قال: فَنَزَّى نَزْوَةً حتى كاد، قلنا: فما أنت؟ قال: أنا الدجال. وإنه يدخل الأمصار كلها إلا طيبةَ، وطيبة: المدينةُ).
قوله: ركبوا سفينة في البحر: سفينة في البحر قال القاري: أي لا برية احترازًا عن الإبل فإنها تسمى سفينة البر وقيل أي مركبًا كبيرًا بحريًا لا زورقًا صغيرًا نهريًا.
قوله: فَجالت بهم حتى قذفتهم في جزيرةٍ من جزائرِ البحرِ: فجالت: حوَّلتهم عن القصد والمسار. جال يَجُول جَوْلَة إذا دار.
(قذفتهم): أي رمت بهم إلى الجزيرة، والمراد أن السفينة بعد أن تحطمت فركبوا لوحًا من ألواحها فألقت بهم على شاطئ جزيرة. وقد أبهمت الجزيرة هنا لحكمة من الله تعالى، فلا يدرى هذه الجزيرة من أي الجزر، وأين موقعها.
غير أن صاحب مصابيح السنة يرى في قول النبي صلى الله عليه وسلم «ألا إنه في البحر الشام، أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق ما هو»: لم ير النبي أن يبين لهم موضعه فردد ولم يعين، ويحتمل أن يكون المراد بالبحرين ما يلي جانب الشام واليمن، من البحر الممتد على ساحل العرب، ثم أضمر عن القولين وقال: لا بل من قبل المشرق ما هو: أي من قبل المشرق هو، و(ما) صلة، ويجوز أن تكون بمعنى الذي، أي: من قبل المشرق ما هو فيه».
قال القرطبي: في( التذكرة) هو شك أو ظن منه صلى الله عليه وسلم أو قصد الإبهام على السامع ثم نفى ذلك وأضرب عنه بالتحقيق، فقال: «لا بل من قبل المشرق» ثم أكّد ذلك بـ «ما» الزائدة والتكرار اللفظي، فما زائدة لا نافية.
وقال النووي في(شرح مسلم)، قال القاضي: لفظة «ما هو» زائدة صلة للكلام ليست بنافية، والمراد إثبات أنه في جهات المشرق.
ولما قذفتهم وفي رواية: (ثم أرفؤوا إلى جزيرة) أي قربوا السفينة للموضع الذي تشد إليه وتوقف عنده. وإرفاء السفينة تقريبها من الشط، والمرفأ: الموضع الذي تقرَّب إليه السفينة لتوقف عنده.
قوله: فإذا هم بِداَبةٍ لبَّاسةٍ ناشرة شعرها فقالوا: ما أَنتِ؟ قالت: أنا الجسَّاسَةُ: قال صاحب (التحفة): «الظاهر أنها صيغَة مُبالغة من اللُّبسِ وأنّ المراد بقوله «لَبَّاسَة» كثيرة اللِّباس وكُنّي بكثرة لباسها عن كثرة شعرها وقوله: «ناشرة شَعرها» كالبيان له (نَاشِرَةٍ) بالجرّ صِفة ثانية لدابَّة أي جاعِلة شَعرها مُنتشرة».
وفي رواية: ( دابة أهلب كثير الشعر) والدابة يطلق على الذكر والأنثى لقوله تعالى: (وما من دابة في الأرض) سورة الأنعام: 38، كذا قالوا: والأظهر أنه بتأويل الحيوان قاله القاري.وذكر صاحب «مصابيح السنة» والأهلب: من الهُلبة وهي ما غلُظ من شعرها.
و«الجساسة» بفتح الجيم، وتشديد السين المهملة الأولى، قيل: هي تجس الأخبار فتأتي بها الدجال، وقيل: هي الدابة التي تخرج آخر الزمان ولا دليل عليه.
قوله: قالوا: فأخبرينا، قالت: لا أخبرُكُم ولا أَستَخْبِرُكُم، ولكن ائتوا أقصى القرية، فإن ثَمَّ مَنْ يُخبِرُكم ويَستخبِرُكُم: وفي رواية: (فإنه إلى خبركم بالأشواق) أي شديد الشغف بما عندكم من الخبر، وكأن له أشواقًا إليه يهيم بها.
أي إن الرجل الذي في الدير وفي أقصى القرية شديد الأشواق إلى ما عندكم من أخبار وأحوال يريد أن يعرفها ومهتم بها جدًا، قال التوربشتي رحمه الله: أي شديد نزاع النفس إلى ما عندكم من الخبر حتى كأن الأَشواق مُلصَقة به أو كأنّه مُهتم بها.
قوله: فَأتيْنا أقصى القريةَ: (وفي رواية: فانطلقنا سراعًا حتى دخلنا الدير): أي انطلقنا مسرعين إلى الدَّير: وهو خان النصارى، وفي التهذيب: ديرُ النصارى، والجمع أديار، وصاحبه الذي يسكنه ويعمره ديَّارٌ ودَيرانيُّ، والمراد هنا القصر أو السكن أو المحبس أو الذي عزل فيه بعيد عن أعين الناس.
قوله: فإذا رجل موثَق بِسِلسلة: وفيه تأكيد على أنه ذكر وليس أنثى وأنه من سائر البشر، وأنه مقيد وليس حر التصرف والحركة، وفي رواية: شديد الوثاق، أي مقيد بالسلاسل والأغلال بإحكام، ولما رأوه وحاله الذي هو عليه خافوا منه وفزعوا كما جاء قولهم في إحدى الروايات: «فرقنا» أي خفنا.
لكنه رفض أن يخبرهم عن حاله إلا إذا أجابوه عما يسأل عنه كما جاء في قوله: «قد قدرتم على خبري فأخبروني ما أنتم»: أي تمكَّنتُم من خبري، لا أحبسه عنكم، فأحدِّث لكم عن حالي، فأخبروني عن حالكم وما أسأله عنكم أولًا.
قوله: فقال: أَخبِروني عَن عَيْنِ زُغَر، قلنا: مَلأى تَدْفِقُ: فكان أول سؤاله عن عين في الشام وهي: عين زُغَر: بزاي وغين معجمتين وراء مهملة، بلدة معروفة بالشام، في الجانب القبلي من الشام وهي عيْن بالشَّام من أرْض البلْقاء. قيل هو اسم لها، وقيل اسم امرأة نُسِبت إليها.
وفي رواية مسلم: «هل في العين ماء|؟ وهل يزرع أهلها بماء العين ؟ قلنا: نعم هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها».
قوله: قال: أخبروني عن البُحيرة: وفي رواية: «عن بحيرة طبرية» وفي رواية: «قال: أما إنَّ ماءها يوشك أن يذهب» أي بحيرة طبرية والبحــيرة: تصغير البحر. وفي رواية: قوله: «هيهات» كأنه يريد تغير أحوال هذه الأشياء.
قوله: قلنا: ملأى تدفق: أي مليئة بالماء.
قوله: قال: أخبروني عن نَخل بَيْسان الذي بين الأردن وفلسطين هل أطعم؟ قلنا: نعم: في رواية قال: «أما إنها توشك ألا تثمر». أي: هل أثمر؟ يقال: بأرض فلان من الشجر المطعم كذا، أي: يعطي أي: المثمر.
بيسان مكانها وسبب تسميتها
قوله: «بَيْسَـانُ»: بالفتح ثم السكون وسين مهملة ونون. مدينة بالأردن بالغور الشامي، وهي من أرض فلسطين التي احتلها اليهود وقد نشأت بيسان فوق موضعها الحديث نسبيًا في أوائل القرن التاسع عشر.
يرجع شأن بيسان إلى عصور ما قبل التاريخ، أي إلى أكثر من ستة آلاف سنة قبل الميلاد. حملت في العهود الكنعانية اسم (بيت شان)، وقد يعني هذا الاسم بيت الإله شان أو بيت السكون، وقد أخذ اليهود من الكنعانين التسمية.
وهي بلدة وبئة حارة، أهلها سمر الألوان، جعد الشعور لشدة الحر الذي عندهم، ولأنها تنخفض 131 مترًا عن سطح البحر، وقيل بها جامع ينسب إلى عمر بن الخطاب.
وبعد أن اغتصب اليهود (بيسان) في حرب فلسطين في 12 /5/ 1948م هدموها وأقاموا عليها مغتصبة جديدة، في عام 1949 دعوها باسم (بيت شعن –an ‘eit Sh) كان بها في نهاية عام 1950 (2875) يهوديًا.
وقد ارتبطت بيسان بشبكة مهمة من طرق المواصلات. وقد جذب موقعها الأنظار فكانت محطة تتجمع فيها القوافل التي تسير بين الشام ومصر، وبمرور الزمن استطاعت أن تغري كثيرًا من التجار والغزاة بالاستقرار فيها.
وكانت معبرًا للغزوات الحربية بينهما أيضًا.
وتكمن أهميتها التجارية والعسكرية والزراعية لوقوعها على الطريق العام الذي يصلها بشرق الأردن وحوران ودمشق، ولوجودها في غور خصب تتوفر فيه المياه، ويزرع فيه النخيل والقطن والحبوب وغيرها.
وتحدث عنها الإدريسي (المتوفى عام 560هـ/ 1165م) بقوله: «أما بيسان فمدينة صغيرة جدًا بها نخل كثير، وبنيت فيها السافان التي تعمل منه الحصر السافانية، ولا يوجد نباته إلاّ بها وليس في سائر الشام شئ منه».
قوله: قال: أخبروني عن النبي هل بعث؟ قلنا: نعم: يسأل عن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه المسبق بذلك لكنه لا يعلم متى.
قال: أخبروني كيف الناس إليه؟ قلنا: سِرَاعٌ: بكسر السين أي مسرعون ومفردها سريع، أي مبادرون يسابق بعضهم بعضًا إلى دعوته.
قال: فَنَزَّى نَزْوَهً حتى كاد، قلنا: فما أنت؟ قال: أنا الدجال: نزا: وثب (نزوانًا) أيضا بفتحتين. نَزَوْتُ على الشئ أي: وَثَبْتَ عليه.
والدجال: أي الكذاب. وأصل الدجل الخلط يقال: دجَّل إذا لبَّس وموَّه، وفي رواية قال: «إني أنا المسيح» وسمي به؛ لأن عينه الواحدة ممسوحة وفي تسميته وجوه أٌخَر، والمسيح بالعبرانية: مَشيحا، فعرِّب كما قيل في موسى موشى.
والماشيَّح: كلمة عبرية تعني «المسيح المخلص»، وهي مشتقة من الكلمة العبرية «مشح» أي «مسح» بالزيت المقدَّس ويدّعي اليهود أنه ملك من نسل داود ينهي عذاب اليهود، ويأتيهم بالخلاص، ويجمع شتات المنفيين، ويعود بهم إلى صهيون، ويحطم أعداء اليهود، ويعيد بناء الهيكل، ويتخذ القدس عاصمة، لهم ويحكم بشريعة التوراة.
والدَّجال، يطلق لغة على وجوه منها، كما جمعها ابن دحية: الكذاب، والدجل: وهو طلي البعير الأجرب بالقطران، ولضربه نواحي الأرض وقطعها، التغطية: قال ابن دريد: كل شيء دجلته فقد غطيته.
وقال البغوي: بعض الناس يقولون الدجال مِسِّيحٌ بكسر الميم وتشديد السين على وزن فِعِّيلٌ، وليس بشيء، بل هما في اللفظ واحد، وسمي عيسى عليه السلام مسيحًا؛ لأنه كان يمسح الأرض أي: يقطعها، وقيل: لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا بَرِأَ.
وأما الدجال فسمي مسيحًا، لأنه ممسوح إحدى العينين، والمسيح الأعور وبه سُمِّي الدجال.
وخروج الدجال هو أول العلامات الكبرى كما قال ابن حجر: فالذي يترجح من مجموع الأخبار أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض وينتهي ذلك بموت عيسى بن مريم عليه السلام.
قوله: وإنه يدخل الأمصار كلها إلا طيبةَ، وطيبة: المدينةُ: طيبة: هي اسم لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقال لها: طيبة وطابة من الطيب، وهي الرائحة الحسنة لحسن رائحة تربتها، وقيل: لخلوها من الشرك وتطهيرها منه، وقيل: لطيبها لساكنيها، ولأمنهم ودعتهم فيها، وقيل: من طيب العيش بها. أو لأنها طاهرة من الخبث والنفاق، كما قالصلى الله عليه وسلم : «المدينة كالكير تنفي خبثها وينصّعُ طيِّبها». قولهصلى الله عليه وسلم عام استثنى منه المدينة، وفي مقام آخر استثنى المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد الطور من قول النبي صلى الله عليه وسلم إن الدجال تطأ قدمه كل مكان في الأرض: «إلاّ أربعة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، والطور، ومسجد الأقصى...» كما مرّ معنا عند شرح الحديث الرابع والثلاثون.
من فوائد الحديث:
1- تميم يجيب الدجال بجواب العارف بهذه الأمكنة بل ويبدو أنه حديث عهد بها.
2- فلسطين كانت مسكن تميم ومن معه وقت ركوبهم البحر وما حدث لهم به.
3- اختص نبينا في توصيف الدجال وبما لم يُنَبَّأ أو يخبر به غيره من الأنبياء.
4- قوله: ففرحت، فيه محبة النبي صلى الله عليه وسلم لإسعاد أصحابه وإدخال السرور عليهم وإشاعته فيهم وكأنه أَنِس بهذا الخبر، فسارعهم بما يسرُّهم به.
5- من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينقل الخبر عمن دونه، ويعلنه على ملإ من منبره وبانشراح صدر وابتسامة تعلو محيَّاهُ.
6- في الحديث دليل أن الدجَّال حي يرزق وموجود على الكرة الأرضية، يخرج آخر الزمان.
7- لم يثبت عن غير تميم الداري والنفر الذين كانوا معه أن أحدًا غيرهم رأى الدجال أو سيراه إلى آخر أيام الدنيا، والله أعلم.
8- الدّجال يعترف أنه دجّال وما تحمله الكلمة من معان سلبية في حقّه.
9- هذا الحديث من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه يخبر عن أمر سيقع لا محالة آخر الزمان.
لاتوجد تعليقات