رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: جهاد العايش 9 مايو، 2016 0 تعليق

الأربعون الفلسطينية الْحَديثُ الرابع عَشْر- مُوسَى يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْبضَ روحَهُ قَرِيبًا مِنْ فِلَسْطِين

القلوب التي جُبلِت على الكفر وانطوت سجيتها على العناد، لم يُفلِح معها معجزات، ولا ألواح فيها آيات بيّنات

من إكرام الله تعالى لموسى أنه لم يأمر الملك بأخذ روحه قهرًا، بل أرسله في صورة بشر منذرًا بالموت، وأمره بالتعرض على سبيل الامتحان

كتاب: (الأحاديث الأربعون الفلسطينية)، وثيقة نبوية تؤكّد ارتباط الأرض المقدسة فلسطين برسالة التوحيد عبر الأزمان كلها أولها وأوسطها وآخرها، إنها أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - التي تشد العالمين إلى أرض فلسطين، إنها زبدة أحاديث سيد المرسلين حول فلسطين وأهلها، صحيحة صريحة تبعث فينا الأمل والجرأة في الحق، وصدق اليقين، ولقد لقي متن كتاب (الأحاديث الأربعون الفلسطينية) قبولا واسعا فقد تدافع كثيرون إلى ترجمته إلى لغاتهم، فاستحق أن يكون لهذا المتن شرح يليق به، وها نحن أولاء نشرح هذه الأحاديث في هذه السلسلة المباركة، واليوم مع شرح الحديث الرابع عشر:

     عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «أُرسِـلَ مَلكُ الموتِ إلى موسى عليه السلام»، وفي رواية عن أبي هريرة:جاء ملك الموت إلى موسى فقال: أجب ربك( فَلمَّا جاءَهُ صكَّــهُ فَفَقأَ عينهُ فَرَجَعَ إلى رَبِّهِ فقال: أَرسلتني إلى عبدٍ لا يريدُ الموتَ، قال: فَردَّ اللهُ إليه عَينهُ، وقال: ارجع إليه فقل له: يَضَعْ يَدهُ على مَتنِ ثور، فَلَهُ بما غَطَّتْ يَدُهُ بِكـلِّ شَعرةٍ سَـنةٌ، قــال: أَيْ رَبِّ، ثُـمَّ مَهْ؟ قال: ثم الموتُ، قال: فالآن. فَسأل اللهَ - أَي مـوسى - أَن يُـدنِيـَهُ مـنَ الأَرضِ المـقدسَـةِ رَميةً بحجـر قال رسول الله:فَلـو كُـنـتُ ثَـمَّ (وفي رواية: لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ) لأَريـتـُـكـمْ قَـبـرهُ إلى جانبِ الطريق تَحتَ (وفي رواية: عِنْدَ الكثـيـبِ الأحمرِ ).

شرح الحديث

     بعد مضي فترة على وجود بني إسرائيل في مصر، أمر الله -تبارك وتعالى- نبيه موسى أن يخرج من مصر ومعه بنو إسرائيل متوجها إلى الأرض المقدسة نحو الشرق، وبعد أن وصلوا صحراء سيناء، تقلبوا بألوان من الكفر والعصيان حينا والعناد وعدم طاعة نبي الله موسى حينا آخر، فعاشوا بعدها في تيه لا يهتدون سبيلًا، ونبي الله موسى ومن غير كلل ولا ملل يأمر بني إسرائيل رهبة، ويحثهم رغبة على دخول الأرض المقدسة، لكن من غير جدوى كما أخبر سبحانه وتعالى على لسان موسى، قال تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (المائدة: 21).

     فأجابوه وكعادتهم بلغة الجبناء المذعورين المرعوبين من العماليق الفلسطينيين الجبارين، ومن غير حياء أو احترام لنبي الله موسى، الذي أقامه الله بين ظهرانيهم، ويسَّر لهم سبل النصر على أعدائهم من تابوت يتقدمهم، يُنْصَرون به فيه سكينة ورحمة، لكنهم و من غير خوف أو خشية أو رهبة في قلوبهم من الله، قالوا كما أخبر -سبحانه وتعالى- على لسانهم: {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة: 24)، لقد اضطرهم الأمر ومن شدة خوفهم من الفلسطينيين الأولين الذين كانوا على الكفر وهم من كانوا يوصفون بالأمة المسلمة، وببني إسرائيل تشريفًا لهم، وكان بين أظهرهم نبيّا الله موسى وأخوه هارون -عليهما السلام يقودان مسيرتهم، غير أنهم استهزؤوا بالله -تبارك وتعالى- ورسله، وبكل عناد مجددين رفضهم دخول الأرض المقدسة، كما أخبر سبحانه وتعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} (المائدة: 22).

     لقد استحكم في قلوبهم الجُبْن والخور من الفلسطينيين العماليق الكفرة حينها، ولم يشفع لهم ما ينبغي أن يكونوا عليه من شريعة صحيحة نزلت على نبيهم موسى غضَّة طريَّة، ومعجزات تأتيهم تترا، تتراءى لهم أمام أعينهم بين الحين والآخر، وفي كل مناسبة، لكن من غير جدوى، لكنها القلوب التي جُبلِت على الكفر وانطوت سجيتها على العناد، فلم يُفلِح معها معجزات، ولا ألواح فيها آيات بيّنات.

     ثم كانت بعد ذلك المحاولات تلو  المحاولات مع بني إسرائيل لدخول الأرض المقدسة حال وجودهم في التيه مع نبيّي الله موسى وهارون -عليهما السلام- لكنه العناد مرة أخرى، فكانت عقوبة الله لبني إسرائيل حرمانهم دخول الأرض المقدسة أربعين سنة، بسبب تعنتهم، ورفضهم أوامر نبيهم، واضطرابهم على أنبيائهم، وتقلبهم المستمر بين الكفر والإيمان.

وحال الله بينهم وبين الأرض المقدسة لما عصوْا أوامر نبيهم حتى قبض الله روح موسى وأخيه هارون -عليهما السلام- في التيه قبل أن يدخلا الأرض المقدسة.

     نعم موسى عليه السلام لم يدخل الأرض المقدسة فلسطين، وتُوفِّي في شرقي الأردن، وإنما دخل بنو إسرائيل فلسطين بعد وفاته بقيادة (يوشع بن نون)، فحبست له الشمس حتى دخل الأرض المقدسة فاتحًا بإذن الله ومعه نفر قليل من بني إسرائيل، كما جاء ذلك في حديث البراء بن عازب): كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلَاثَ مِائَةٍ»، ثم أكمل داود مسيرة (يوشع بن نون) -عليهما السلام- فكانت هي البدايات الحقيقية لدخول نفر قليل مؤمن من بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة ( فلسطين).

لكن حديثنا هذا يتحدث عن فترة قريبة من وفاة هارون -عليه السلام- وتحديدًا وبنو إسرائيل ما يزالون في التيه وبعد فترة وجيزة من وفاة هارون أخي موسى -عليهما السلام- أرسل ملك الموت إلى موسى -عليه السلام- كما جاء في نص الحديث:

     قوله: أُرسِـلَ مَلكُ الموتِ إلى موسى: تمثل ملك الموت لموسى على هيئة رجل يدخل عليه ومن غير استئذان أو أن يعلمه سبب قدومه ونوع المهمة التي جاء لأجلها كما هي السنة مع الأنبياء ومن غير مقدمات أو علامات التنبيه لموسى بدنوّ أجله يتقدم إليه ليقبض روحه.

     قوله: فَلمَّا جاءَهُ صكَّــهُ: وهي ردة فعل طبيعية من موسى تجاه رجل لا يعرفه يدنو منه يريد أن يعتدي عليه. فــصكّه: أي ضربه ولطمه، ولا يمتنع أن يكون الله أذن له بذلك امتحانًا للملطوم، أو أن موسى لم يعلم أنه ملك مرسل من الله، وظن أنه رجل قصده، أو أنه إنما لطمه؛ لأنه جـاء لقبض روحه من قبل أن يخيره، لما ثبت أنه لم يقبض نبي حتى يخير؛ فلهذا لما خيّره في المرة الثانية أذعـن”.

     قوله: فَفَقأَ عينهُ فَرَجَعَ إلى رَبِّهِ فقال: أَرسلتني إلى عبدٍ لا يريدُ الموتَ، قال: فَردَّ اللهُ إليه عَينهُ: فَفَقأَ عينهُ: بالهمز. بخقها، أي عورها، وبابه قطع، وفقأها تفقئه مثله، وتفقأ الدُّمَلُ القرحُ، أي ضربه بباطن كفه فقلع عينه وأعماها، واللطمة أثرت في العين الصورية لا في العين الملكية، فإنها غير متأثرة بها.

     وذكر صاحب الإفصاح: «إنما وجه الحديث عندي أن موسى كان من الدنيا في دار عبادة وخدمة، فجاءه ملك الموت لينقله إلى دار راحة ونعمة، فكره أن يراه الله -تعالى- مسرعًا إلى الخلاص من خدمة ربه، وحمل أعباء الأثقال من مرارة خلقه، طالبًا تعجيل الراحة بالتنعم في دار الخلد بالعطايا السنية فلطم ملك الموت، وقيل إن الله -تعالى- لإكرامه إياه ولطفه به لم يأمر الملك بأخذ روحه قهرًا، بل أرسله في صورة بشر منذرًا بالموت، وأمره بالتعرض على سبيل الامتحان.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك