رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: جهاد العايش 17 مايو، 2016 0 تعليق

الأربعون الفلسطينية الْحَديثُ الرابع عَشْر(2) مُوسَى يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْبضَ روحَهُ قَرِيبًا مِنْ فِلَسْطِين

سميت فلسطين بالأرض المقدسة لأنها طهرت من الشرك و جُعلت مسكنًا للأنبياء والمؤمنين

الحرص على الموت في الأرض المقدسة لا يقل شأنًا عن الموت فيها، وإليهما كان يسعى موسى ومن كان قبله ومن جاء بعده من الأنبياء

 

كتاب: (الأحاديث الأربعون الفلسطينية)، وثيقة نبوية تؤكّد ارتباط الأرض المقدسة فلسطين برسالة التوحيد عبر الأزمان كلها أولها وأوسطها وآخرها، إنها أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - التي تشد العالمين إلى أرض فلسطين، إنها زبدة أحاديث سيد المرسلين حول فلسطين وأهلها، صحيحة صريحة تبعث فينا الأمل والجرأة في الحق، وصدق اليقين، ولقد لقي متن كتاب (الأحاديث الأربعون الفلسطينية) قبولا واسعا فقد تدافع كثيرون إلى ترجمته إلى لغاتهم، فاستحق أن يكون لهذا المتن شرح يليق به، وها نحن أولاء نشرح هذه الأحاديث في هذه السلسلة المباركة، واليوم مع شرح الحديث الرابع عشر:

كيف لموسى عليه السلام أن يفقأ عين الملك؟

قال النووي: قال المازري: وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث، وأنكروا تصوره، قالوا: كيف يجوز على موسى فقء عين ملك الموت؟

 قال: وأجاب العلماء عن هذا بأجوبة: أحدها: أنه لا يمتنع أن يكون موسى صلى الله عليه وسلم  قد أذن الله -تعالى- له في هذه اللّطمة، ويكون ذلك امتحانًا للملطوم، والله سبحانه وتعالى- يفعل في خلقه ما شاء، ويمتحنهم بما أراد.

- والثاني: أن هذا على المجاز، والمراد أن موسى ناظره وحاجه فغلبه بالحجة، ويقال: فقأ فلان عين فلان إذا غالبه بالحجة، ويقال: عورت الشيء إذا أدخلت فيه نقصًا، قال: وفي هذا ضعف لقوله صلى الله عليه وسلم : «فرد الله عينه» فإن قيل: أراد رد حجته كان بعيدًا.

-  والثالث: أن موسى عليه السلام لم يعلم أنه ملك من عند الله، وظن أنه رجل قصده يريد نفسه، فدافعه عنها، فأدت المدافعة إلى فقء عينه، لا أنه قصدها بالفقء، وتؤيده رواية (صكه)، وهذا جواب الإمام أبي بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين، واختاره المازري والقاضي عياض، قالوا: وليس في الحديث تصريح بأنه تعمد فقء عينه، فإن قيل: فقد اعترف موسى حين جاءه ثانيًا بأنه ملك الموت، فالجواب أنه أتاه في المرة الثانية بعلامة علم بها أنه ملك الموت، فاستسلم بخلاف المرة الأولى. والله أعلم.أه قوله: وقال: «ارجع إليه فقل له يَضَعْ يَدهُ على مَتنِ ثور فَلَهُ بما غَطَّتْ يَدُهُ بِكـلِّ شَعرةٍ سَـنةٌ: متن الثور: ظهره. بفتح الميم وإسكان التاء، مكتنف الصلب من العصب واللحم.  قوله: «قــال: أَيْ رَبِّ، ثُـمَّ مَهْ؟»: ثم مه: هي هاء السكت، وهو استفهام، أي ثم ماذا يكون أحياة أم موت؟

قوله: «قال: ثم الموتُ»، قال: فالآن: والآن ظرف زمان غير متمكن، وهو اسم لزمان الحال الفاصل بين الماضي والمستقبل. وفي رواية: «أجب ربك»: أي للموت ومعناه جئت لقبض روحك، وهو من لطف الله -تعالى- وإكرامه لموسى أن خيره وأمهله.

قوله: «فَسأل اللهَ -أَي مـوسى- أَن يُـدنِيـَهُ مـنَ الأَرضِ المـقدسَـةِ رَميةً بحجـر: يدنيه: يقربه، رمية حجر: أي قدر ما يبلغه».

     أي يكون بيني وبينها مقدار رمية حجر. والأرض المقدسة: سمّاها مقدسة؛ لأنها طهرت من الشرك، وجُعلت مسكنًا للأنبياء والمؤمنين. فلسطين، يقال: بيت المقدس والبيت المقدَّس وبيت القدس: بضم الدال وسكونها، وفيه فضل الدفن في الأرض المقدسة. وبه بوَّب البخاري هذا الحديث في كتابه، فقال: (بَابُ مَنْ أَحَبَّ الدَّفْنَ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَوْ نَحْوِهَا) وفي موضع آخر قال: باب وفاة موسى.

     عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} قَالَ: هِيَ الشَّامُ. قيل: هي الشام وفِلَسْطين، وعلى لسان موسى عليه السلام قال تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (المائدة: 21). وبغض النظر عن التفاوت في تحديد حدود الأرض المقدسة، إلا أن موسى -عليه السلام- عرف حدها وقدسيتها وشرف المدفونين فيها فكانت هي علة طلب الدنو منها.

حدود الأرض المقدسة:

    فقد اختلف أهل التفسير في تعيين حدود الأرض المقدسة، قال مجاهد: هي جبل الطور وما حوله. قال الضحاك: إيلياء وبيت المقدس. قال عكرمة والسدي: أريحا. وقال الكلبي: هي دمشق وفلسطين وبعض الأردن. وقال قتادة: هي الشام كلها. ومع ما اختلفوا فيه نجد أن فلسطين في جل الأقوال مشمولة. وسميت بذلك؛ لأنها كانت قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين.

لماذا سأل موسى ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة:

     لقد تعددت أسباب سؤال موسى صلى الله عليه وسلم  ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة كل ذلك كان يصب في مسارعته لرضى الرب سبحانه وقد أجاب النووي على هذال السؤال فقال: أما سؤاله الإدناء من الأرض المقدسة؛ فلشرفها، وفضيلة من فيها من المدفونين من الأنبياء وغيرهم، وقال بعض العلماء: إنما سأل الإدناء، وجاء «إنما سأل الإدناء من الأرض المقدسة مسارعة لامتثال أمر الله -تعالى- في قتال الجبارين الذين كانوا ببيت المقدس».

     وقال ابن بطال: «في معنى سؤال موسى أن يدنيه من الأرض المقدسة- والله أعلم- لفضل من دُفن في الأرض المقدسة من الأنبياء والصالحين؛ فاستحب مجاورتهم في الممات كما يستحب جيرتهم في المحيا؛ ولأن الفضلاء يقصدون المواضع الفاضلة، ويزورون قبورها ويدعون لأهلها. قال المهلب: إنما سأل الدنو من الأرض المقدسة؛ ليسهل على نفسه، وتسقط عنه المشقة التي تكون على من هو بعيد منها من المشي، وصعوبته عند البعث والحشر».

     كما نجد أن هناك من فضلاء الصحابة من كانوا حريصين كل الحرص على أن يُوارى جثمانهم في الأرض المقدسة؛ فهذا أَبُو عُبَيدَةَ بنُ الجرَّاحِ أحد السابقين الأولين، وأمين هذه الأمة، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم  بالجنة. انطَلَقَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ بِبَيتِ المقدِسِ، فَأَدركَهُ أَجلُهُ بِفَحلٍ فَتُوفِّي بِهَا، وَقَالَ: ادفُنُونِي مِن غَربِيِّ نَهرِ الأُردُنِّ إِلَى الأَرضِ المقَدَّسَةِ، ثُمَّ قَالَ: ادفُنُونِي حَيثُ قَضَيتُ؛ فَإِنِّي أَتَخَوَّفُ أَن تَكُونَ سُنَّةً.

ومع تقديسها لا يمنع أن يقع فيها ومن أهلها من المعاصي، قال ابن بطال: «أجمع أهل الشرائع على أن الله قدسها وقد شاهدوا فيها المعاصي والكفر والذنوب ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي».

لماذا سأل موسى ربه الإدناء من الأرض المقدسة ولم يسأل الدفن فيها؟

     وهنا لفتة مهمة يجب أن نشير إليها فموسى سأل الله أن يموت ويدفن قريبًا منها وليس فيها، وعلة ذلك -والله أعلم- كما جاء في شرح النووي «أنه خاف أن يكون قبره مشهورًا عندهم فيفتتن به الناس، وفي هذا استحباب الدفن في المواضع الفاضلة، والمواطن المباركة، والقرب من مدافن الصالحين». اﻫ. كما أنه خشي إن وصى بني اسرائيل أن يحملوه قريبًا منها ألا يفعلوا أو ينسوه كما نسوا جثمان يوسف لما خرجوا من مصر.

على كل حال لا غضاضة في كونه قريبًا من الأرض المقدسة وليس فيها لأن من قارب الشيء أعطي حكمه.

قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فَلـو كُـنـتُ ثَـمَّ (وفي رواية:لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ): فلو كنت ثمَّ: بفتح المثلثة ظرف مكان،أي هناك، صرح أبو هريرة في هذا الجزء من الحديث برفعه إلى النبي مع أنه لم يصرح بذلك في بدايته.

     لأَريـتـُـكـمْ قَـبـرَهُ إلى جانبِ الطريق تَحتَ (وفي رواية: عِنْدَ الكثـيـبِ الأحمرِ).: والكثيب بالمثلثة وآخره موحدة وزن عظيم: الرمل المجتمع. وقيل: الكثيب السهل. الكَثِيب: الرمل المستطيل المحدودِب، وهو التل من الرمل.  وقال صاحب الغريب: إذا كانت الرملة مجتمعة، فهي: العَوْكَلَة، فإذا انبسطت وطالت، فهي الكثيب، فإذا انتقل الكثيب من موضع إلى آخر بالرياح، وبقى منه شيء رقيق فهو اللَّبب، فإذا نقص، فهو: العداب.

فالرسول شاهد عيان على مكان القبر ووصفه لدرجة اليقين حتى أنه لو تمكن من الوصول إلى المكان لاستطاع تحديد مكانه بالدقة ذاتها التي حددت فيها عجوز بني اسرائيل مكان قبر يوسف عليهم السلام جميعًا.

من فوائد الحديث:

1- الحرص على الموت في الأرض المقدسة لا يقل شأنًا عن الموت فيها وإليهما كان يسعى موسى ومن كان قبله ومن جاء بعده من الأنبياء.

2-ليس في قبور الأنبياء ما هو محقق إلا قبر نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم - وأما غيره من قبور الأنبياء فمظنون.

3-فيه جواز رجاء الدفن في الأرض المقدسة، أو قريبًا منها، وقد بوَّب البخاري (باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها).

4- وفيه أن الملك يتمثل بصورة الإنسان، وقد جاء في ذلك أحاديث عدة صحيحة صريحة.

5-وفيه من فضل الله -سبحانه- أنه أَرى رسوله صلى الله عليه وسلم  موسى يصلى في قبره؛ ليعرف صلى الله عليه وسلم  أنه ليس في دفنه هو في الأرض غضاضة ولا نزول عن مرتبة موسى؛ ولتكون قبورهم أمانًا لأهل الأرض.

6-على أهل الأرض المقدسة أن يثبتوا عليها حتى يلقوا الله تعالى وهم كذلك لينالوا شرف الموت فيها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك