رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: جهاد العايش 18 أبريل، 2016 0 تعليق

الأربعون الفلسطينية الْحَديثُ الثَّانِي عَشْر (2) النَّبِيُّ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم يَدْعُو نَصَارَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِلإسْلإمِ

اقتصار هرقل على ذكر غسل القدمين إشارة منه إلى أنه لا يطلب منه إذا وصل إليه سالمًا لا ولايةً ولا منصبًا وإنما يطلب ما تحصل له به البركة

كتاب: (الأحاديث الأربعون الفلسطينية)، وثيقة نبوية تؤكّد ارتباط الأرض المقدسة فلسطين برسالة التوحيد عبر الأزمان كلها أولها وأوسطها وآخرها ، إنها أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم التي تشد العالمين إلى أرض فلسطين، إنها زبدة أحاديث سيد المرسلين حول فلسطين وأهلها, صحيحة صريحة تبعث فينا الأمل والجرأة في الحق، وصدق اليقين، ولقد لقي متن  كتاب: (الأحاديث الأربعون الفلسطينية) قبولا واسعا؛ فقد تدافع كثيرون إلى ترجمته إلى لغاتهم, فاستحق أن يكون لهذا المتن شرح يليق به، وها نحن أولاء نشرح هذه الأحاديث في هذه السلسلة المباركة، واليوم معاً نستكمل الحلقة الثانية من شرح الحديث الثاني عشر:

     عَنْ ‏ابْنَ عَبَّاس -ٍرضي الله عنهما- ‏‏أَنَّ ‏أَبَا سُفْيَانَ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ: ‏«‏أنَّ‏‏ هرَقْلَ‏ أَرسلَ إليه وهم ‏‏بإِيلياءَ، ‏ثُمَّ‏‏ دعا بكتَابِ رسُول صلى الله عليه وسلم ،‏ فلمَّا فرغ من ْقرَاءة الكتَاب كثُرَ عندَهُ ‏‏الصَّخَبُ ‏فارتَفعَت الأصوَات، وَأُخْرِجنَا فقُلتُ لأصحابِي حين أخرِجنَا: لقد‏‏أَمِرَ‏‏أَمْرُ‏‏ابن أَبِي كبْشةَ ‏‏إنَّهُ يخافهُ ملكُ ‏‏بني الأَصْفَرِ».

قوله: ثُمَّ قَالَ هرقل لِتُرْجُمَانِهِ: سَلْهُ كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ؟: وهنا بدأ الحوار المُتَرْجمْ بين هرقل وأبي سفيان، أي ما حال نسبه فيكم أهو من أشرافكم أم لا؟

قوله: قَالَ أبو سفيان: قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ: والتنوين هنا في جملة «ذُو حَسَبٍ» للتعظيم؛ لأن أبا سفيان يشترك معه في هذا النسب.

قوله: قَالَ هرقل: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبائِهِ مَلِكٌ؟ قَالَ أبوسفيان: قُلْتُ: لا: وجاء بلفظة مَن مَلَكَ، وكلاهما بمعنى واحد.

قوله: قال هرقل: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قال أبو سفيان: قُلْتُ: لاَ:

     فيه تأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم بِغيابه وعلم مسبق بعدم كذبه على الناس بعبارة دقيقة لطيفة مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ؛ لأن التهمة إذا انتفت انتفى سببها ؛ لأنها قد تكون تهمة فقط ولا يلزم صحتها، وكأنه يقرر صدق النبي صلى الله عليه وسلم سلفًا.

قوله: قَالَ هرقل: أَيَتَّبِعُهُ أَشْرَافُ النَّاسِ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟: والمراد بالأشراف هنا أهل النخوة والتكبر منهم لا كل من عرف بالشرف.

قوله: قَالَ أبوسفيان: قُلْتُ: بَلْ ضعَفَاؤُهُمْ: تبعه منا الضعفاء والمساكين فأما ذوو الأنساب والشرف فما تبعه منهم أحد، وهو محمول على الأكثر الأغلب.

     قوله: قَالَ هرقل: يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟: قَالَ أبوسفيان: قُلْتُ لاَ، بَلْ يَزِيدُونَ.قَالَ هرقل: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ؟ قَالَ أبوسفيان: قُلْتُ: لاَ: سَخطةً: بفتح السين، ويروى سُخطًا بضمها. وقد اعتادت الملوك أن تكون أسئلتها غاية في الدقة، فمن ذكائه أخرج من سؤاله من ارتد مكرهًا عن الدين وأراد بسؤاله من خرج عن دين محمد رغبة بدين غيره.

قوله: قَالَ هرقل: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟، قَالَ أبوسفيان: قُلْتُ نَعَمْ: أي هل أعلنتم الحرب عليه وشرعتم في قتاله؟

     قوله: قَالَ هرقل: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قَالَ أبوسفيان: قُلْتُ: تَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالًا، مِنْهُ: سجال: بكسر السين: نُوَبٌ ودُولٌ مرة على هؤلاء ومرة على هؤلاء من مساجلة المُستقين على البئر بالدلاء. وقوله: «يُصِيبُ مِنَّا وَنصِيبُ» جملة تفسيرية، وقد قالها أبو سفيان على مسمع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، يوم أحد في قوله يوم بيوم بدر والحرب سجال.

قوله: قَالَ هرقل: فَهَلْ يَغْدِرُ؟: قَالَ أبوسفيان: قُلْتُ: لاَ: يغدر: بدال مكسورة، أي هل ينقض العهد.

قوله: وَنَحْنُ مِنْهُ فِي هذِهِ الْمُدَّةِ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيها: المدة هي صلح الحديبية أو غيبته صلى الله عليه وسلم وانقطاع أخباره عنهم.

     قوله: قَالَ: وَاللهِ مَا أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ هذِهِ: «لا ندري ما هو صانع فيها» لم يجزم بغدره وليس من كلمة في هذا اللقاء ذم بها النبي صلى الله عليه وسلم سوى هذه الكلمة.(قال) أبو سفيان: «والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئًا» أنتقصه به (غير هذه) الكلمة.

قوله: قَالَ هرقل: فَهَلْ قَالَ هذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ:لا: أي هل ادّعى أحد من قومكم يعني قريشًا أو العرب.

     قوله: ثُمَّ قَالَ هرقل لِتُرْجُمَانِهِ: قلْ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ فِيكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ، وَكَذلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ فِي آبائِهِ مَلِكٌ، فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبائِهِ، وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ، أَضُعَفَاؤُهُمْ أَمْ أَشْرَافُهُمْ فَقُلْتَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ: أراد بالضعفاء هم أهل الاستكانة أتباع الرسل لا أهل الاستكبار والشقاق والعناد وأهل الحسد.

     قوله: وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ. فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ علَى النَّاسِ ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى اللهِ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ فَزَعَمْتَ أَنْ لا. كَذلِكَ الإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ: قوله حين يخالط بشاشة القلوب بالنصب على المفعولية والقلوب مضاف إليه أي يخالط الإيمان انشراح الصدور والقلوب ويظهر نورًا يزداد بالصلاة والصيام والزكاة وفي ذلك قوله تعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (التوبة:32).

وكذا أمر أتباع النبي صلى الله عليه وسلم يزدادون ويزداد الإيمان بهم حتى أتم الله دينه وذلك في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3).

قوله: وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ فَزَعَمْتَ أَنَّكُمْ قَاتَلْتُمُوهُ، فَتَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالاً، يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ، وَكَذلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعاقِبَةُ.

     قوله: وَسَأَلْتكَ: هَلْ يَغْدِرُ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لاَ يَغْدِرُ، وَكَذلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ: قوله وكذلك الرسل لا تغدر وهذا ما علمه من خلق الرسل أنها لا تغدر ؛ لأن ذلك خسة في الأخلاق؛ لأن الغدر من صفة الجبناء و من يلهث وراء الدنيا الذي لا يبالي طالبه أخذ حقه بحلال أم حرام؛ ولأن الغدر صفة جامعة لجملة من الأخلاق الذميمة.

 قوله: وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ أَحَدٌ هذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ. فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ. فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ قَالَ هذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ قُلْتُ رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ هرقل: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟: قوله بماذا يأمركم يدل أنه يعلم أن لكل رسول شريعة جاء بها مضامينها أمر ونهي.

قوله: قَالَ أبوسفيان: قُلْتُ: يَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ: قال أبو سفيان يأمرنا بالصلاة والصلة والعفاف وهذا ماجاءت به بجملته الرسل. وأنها لم تأت لطلب جاه أو سلطان لها أو لاستعباد الناس وتسخيرهم لخدمتها.

قوله: قَالَ هرقل: إِنْ يَكُ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ: خَلُصَ هرقل من ثمرة هذا اللقاء بعد أن حقق أمنيته به، أن صاحب الكتاب نبي حقًا، إن صدقت المعلومات التي أدلى بها أبو سفيان.

قوله: وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ وَلَمْ أَكُ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ: قال المازني هذه الأشياء التي سأل عنها هرقل ليست قاطعة على النبوة، إلا أنه يحتمل أنها كانت عنده علامات على هذا النبي بعينه؛ لأنه قال بعد ذلك قد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم.

     قوله: وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ: قوله لو أني أعلم: ويظهر من كلامه أنه يعلم علم اليقين أنه لو أعلن إسلامه فلن يستطيع الوصول إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن قومه لن يسمحوا له، وسيكون مصيره الموت قبل وصوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

     قوله أخلص أي أصل إليه، «لأحببت لقاءه» وفي رواية البخاري «لتجشمت لقاءه»: أي: تكلفت بما فيه من مشقة. وفي مطالع الأنوار «ولتجشمت لقاءه» أوجه؛ لأن الحب للشيء لا يصُدُّ عنه؛ إذ لا يطلع عليه وإنما يصد عن العمل الذي يظهر فلا يملك في كل حين.

وقوله لغسلت عن قدميه مبالغة في العبودية له والخدمة، واقتصاره على ذكر غسل القدمين إشارة منه إلى أنه لا يطلب منه إذا وصل إليه سالمًا لا ولايةً ولا منصبًا وإنما يطلب ما تحصل له به البركة.

     وقوله وليبلغن ملكه ما تحت قدمي أي بيت المقدس الذي كان لقاؤه بأبي سفيان فيها، أو بلاد الشام كلها التي كانت مملكته ومقرها حمص، وكان ما استشرفه هرقل من ملك النبيصلى الله عليه وسلم لما تحت قدميه قد وقع حقًا وذلك لما فتح عمر بن الخطاب بيت المقدس عام 15هـ.

ومما تجدر الإشارة إليه أن أسئلة هرقل كانت مركزة وذكية، وتحمل وراءها معانيَ واستدلالات كثيرة. وأنه عنده علم من كتب الأولين.

ذكر ابن إسحاق في روايته عن أبي سفيان قوله: «فوالله ما رأيت من رجل قط كان أدهى من ذلك الأقلف يعني هرقل». وقال عنه الخطابي: إذا تأملت معاني ما ستقرؤه من أوصافه تبينت قوة إدراكه، ولله دره من رجل! ما كان أعقله لو ساعد معقوله مقدوره.

     قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَهُ: أي طلب الكتاب ممن أودعه عنده، فهو محفوظ عند كاتم سره، وواضح أنه ليس مع ترجمانه كذلك. وسيلاحظ أن الكتاب كتب بلغة العرب فلم ينزل النبي صلى الله عليه وسلم إلى لغتهم؛ لِيُظهَر اعتزاز العرب والمسلمين بلغتهم، ولعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن هرقل وأمثاله قد اتخذ ترجمانًا وهذا فيه إدراك من النبي صلى الله عليه وسلم لعادات الملوك.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك