رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: جهاد العايش 2 مايو، 2016 0 تعليق

الأربعون الفلسطينية الْحَديثُ الثَّالث عَشْر- الْمَسْجِدُ الأقْصَى مِحْرَابُ الأتقيَاءِ

الحديث فيه إثبات أن المسجد الأقصى كان يسمى مسجدًا في عهد بني إسرائيل، وليس هيكلًا كما يدِّعي يهود اليوم

ترك الـمُلك والرئاسة والتفرغ للعبادة مزية لا يقوى عليها إلا من امتلأ قلبه بالإيمان وهي فضيلة جليلة قل من يتصف بها

كتاب: (الأحاديث الأربعون الفلسطينية)، وثيقة نبوية تؤكّد ارتباط الأرض المقدسة فلسطين برسالة التوحيد عبر الأزمان كلها أولها وأوسطها وآخرها ، إنها أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم  التي تشد العالمين إلى أرض فلسطين، إنها زبدة أحاديث سيد المرسلين حول فلسطين وأهلها, صحيحة صريحة تبعث فينا الأمل والجرأة في الحق، وصدق اليقين، ولقد لقي متن  كتاب (الأحاديث الأربعون الفلسطينية) قبولا واسعا؛ فقد تدافع كثيرون إلى ترجمته إلى لغاتهم, فاستحق أن يكون لهذا المتن شرح يليق به، وها نحن أولاء نشرح هذه الأحاديث في هذه السلسلة المباركة، واليوم مع شرح الحديث الثالث عشر:

     عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «إنّ بني إسرائيل استخلفوا خليفة عليهم بعد موسى، فقام يصلي ليلة فوق بيت المقدس في القمر فَذَكَرَ أمورًا كان صنعها؛ فخـرج فَتَدَلَّى بِسَبَب، فأصبحَ السَّببُ معلقاً في المسجد، وقد ذهب، قال: فانطلق حتى أتى قوماً على شط البحر، فوجدهم يضربون لَبِناً أو يصنعون لبناً، فسألهم: كيف تأخذون عـلى هـذا اللَّبِن؟ قـال: فأخـبروه، فَلَبَّنَ معهم، فكان يأكل من عمل يده، فإذا كان حين الصـلاة قـام يصلي، فرفع ذلك العمال إلى دِهْقانِهِم أن فينا رجلاً يفعل كذا وكذا، فأَرسَل إليـهِ فأبى أَن يـأتِيَهُ، ثلاث مرات، ثم إنه جاء يسير على دابتـه، فلما رآه فَرَّ فاتَّبعهُ فسَبَقَهُ، فقال: أنْظِرني أُكلِّمك قال: فقام حتى كلمـه، فأخـبره خبَرهُ، فلما أخبره أنه كان ملكاً وأنه فَرَّ من رهبة ربه، قال: إِني لأَظُنُّني لاحقٌ بِك، قال: فاتبعه، فعبدا الله، حتى ماتا بِرُمَيْـلَة مِصْرَ. قال عبد الله: لَو أَنِّي كُنتُ ثَمَّ لاهتديتُ إلى قبرهما بصفة رسول الله التي وصف لنا».

شرح الحديث

     وضعنا حديث الباب تحت عنوان المسجد الأقصى محراب الأتقياء؛ لأنه مكان يتحنَّث به الأنبياء والعباد والأولياء والزهاد وآثار ذلك شاهدة في معالم الأقصى إلى يومنا هذا، من محاريب ومصاطب عدة متناثرة هنا وهناك في ساحات المسجد الأقصى، ومنهم طائفة من الأنبياء وغيرهم ممن جاء ذكرهم في القرآن الكريم، كان المسجد الأقصى محرابهم:

- نبي الله زكريا: قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران:39).

- نبي الله سليمان: قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ...}  (سبأ: 12- 13).

- نبي الله داود: قال تعالى:  {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ...}  (ص: 21-22}

- وأما العابدة مريم والدة نبي الله عيسى التي لم تفارق المسجد الأقصى قال في حقها ربي جل في علاه: {...كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(آل عمران:37}، وبهذه الآيات وغيرها اتضح أن الأنبياء -عليهم السلام- لم يبنوا هيكلًا، بل محاريب في صدور مساجدهم يصلون فيها.

وقد تكررت كلمة المَحَارِيبَ في الآيات وهي: الغرف، وَاحِدهَا محراب. أي مَسَاجِدَ، كان المؤمنونَ يُصَلُّونَ فيها. ويقالُ: أراد بالْمَحَاريب الغُرَفَ والمواضعَ الشريفةَ، يقالُ لأشرفِ موضعٍ في الدار مِحْرَابٌ، والْمِحْرَابُ مُقَدَّمُ كلِّ مسجدٍ ومجلس وبيتٍ.

قال الزجاج: المحراب الذي يصَلَّى فيه، وأشرف موضع في الدارِ وفي البيت يقال له المحراب، وهو هنا كالغرفة، وقال ابن أبي حاتم في تفسيره، المحراب أي: مصلاه.

     يكشف هذا الحديث عن أنموذج فريد من رؤساء بني إسرائيل قلَّ أمثالهم فيهم، من عبادة في خلوة رغبة ورهبة من الله جل جلاله، وإخلاص وتجرُد وتواضع وكسب يدٍ شريف، إنه رسالة لملوك الأرض قاطبة؛ لما فيها من عظة وعبرة ومعان سامية.  قوله: إنّ بني إسرائيل: إسرائيل: اسم قيل هو مضاف إلى (إيل) قال الأخفش: هو يهمز ولا يهمز قال ويقال إسرائين بالنون كما قالوا: جبرين وإسماعين.إيل: اسم من أسماء الله -تعالى- عبراني أو سرياني، وقولهم جبرائيل وميكائيل كقولهم عبد الله وتيم الله.

     قوله: استخلفوا خليفة عليهم بعد موسى: الحديث يُبين أن الفترة التي كان يعيشها هذا الملك هي ما بعد زمن موسى. معناه من بعد موته وانقضاء مدته. وهو مثل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَ الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا...} (البقرة: 246). الحديث لم يُفصِّل الزمن أو العهد الذي كان فيه أو حتى اسم هذا الخليفة، لكنه أجمل الأمر أنه زمن بعد موسى، كما أن زمن موسى لم يكن فيه تنصيب للملوك؛ و لأن المضمون هو هدف ومعاني هذه القصة وليس حيثياتها.

     وواضح من الحديث أن الخليفة الذي استخلفوه كان ذلك زمناً دخلوا فيه بيت المقدس، وانتصروا على الفلسطينيين، أي بعد دخول يوشع بن نون الأرض المقدسة، صحيح أن الزمن لم يتحدد بالدقة لكن المكان تحدد بكل دقة وهو المسجد الأقصى وتحديدًا فوق سطحه.

قوله: فقام يصلي ليلة فوق بيت المقدس في القمر فَذَكَرَ أمورًا كان صنعها: أي إنه كان يُصلي متنفلًا في ليلة مقمرة، ويبدو أنه ذكر شيئًا من أعماله الصالحة التي كانت خبيئة بينه وبين الله، أو غير ذلك، فساءه ذلك وندم عليه.

     قوله: فخـرج فَتَدَلَّى بِسَبَب فأصبحَ السَّببُ معلقًا في المسجد، وقد ذهب: السبب: أي الحبل، وقيل لايُسمَّى الحبل سببًا حتى يكون أحدُ طَرَفَيه معلّقًا بالسّقْف أو نحوه، أي فخرج من مكانه على سطح المسجد الأقصى بحبل كان يتسلق عليه، وهذا فيه إشارة أنه كان منقطعاً تمام الانقطاع عن الناس ولا يمكن الوصول إليه إلا بالحبل.

     قوله: قال: فانطلق حتى أتى قومًا على شط البحر، فوجدهم يضربون لَبِنًا أو يصنعون لبنًا: ما يعمل من الطين كالطوب والآجرّ. اللّبِنة: التي يُبنى بها والجمع (لَبِن) و (لَبَّن) الرجل (تلبينًا) اتخذ اللّبِن. فأتى قومًا نكرة لا قيمة لهم في المجتمع، يعملون بمهنة صناعة الطوب يتكسبون بها لمعاشهم.

قوله: فسألهم: كيف تأخذون عـلى هـذا اللَّبِن؟ قـال: فأخـبروه فَلَبَّنَ معهم، فكان يأكل من عمل يده، فإذا كان حين الصـلاة قـام يصلي: أي سألهم عن الأجر المادي نظير هذا العمل الشاق.

 قوله: فرفع ذلك العمال إلى دِهْقانِهِم: دهقانهم: بكسر الدال وضمها، رئيس القرية، وهو مُعرَّب وَهُوَ مِنَ الدَّهْق: الإمْتِلاءِ.

     قوله: إن فينا رجلاً يفعل كذا وكذا، فأَرسَل إليـهِ فأبى أَن يـأتِيَهُ: ويبدو أنهم لم يكونوا يعلمون أنه كان ملكًا، غير أنه لفت انتباههم بحسن عمله ومعاملته وحرصه على صلاته، أبى: رفض وامتنع من إجابة طلب الملك أن يأتيه ليستخبر عن حاله، وخشي منه أن يعرفه. قوله: ثلاث مرات، ثم إنه جاء يسير على دابتـه، فلما رآه فَرَّ فاتَّبعهُ فسَبَقَهُ: فَرَّ: يفر بالكسر (فرارًا) هرب.خشية أن يعرفه.

     قوله: فقال: أنْظِرني أُكلِّمك قال: فقام حتى كلمـه، فأخـبره خبَرهُ فلما أخبره أنه كان ملكًا وأنه فَرَّ من رهبة ربه، قال: إِني لأَظُنُّني لاحقٌ بِك:ولما أدركه وعلم خبره وما كان فيه من ملك تنازل عنه رهبة من الله ورغبة إليه، تأثر ذلك الملك به، لما فيه من بذرة خير فسلك مسلكه.

      قال: فاتبعه، فعبدا الله، حتى ماتا بِرُمَيْـلَة مِصْرَ: برميلة: قال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- بضم الراء وفتح الميم، هي ميدان تحت قلعة الجبل، كانت ميدان أحمد بن طولون، وبها كانت قصوره وبساتينه، وهي المعروفة الآن باسم ميدان صلاح الدين، وباسم (المنشية) بالقاهرة. اهـ.

     قوله: قال عبد الله: لَو أَنِّي كُنتُ ثَمَّ لاهتديتُ إلى قبرهما بصفة رسول الله التي وصف لنا: لو أني كنت ثَمَّ: عبدالله هو راوي الحديث، وثم بفتح المثلثة أي لو أني كنت هناك، لعرفت مكان قبرهما كما وصفنيه رسول الله[، ما أعظمها من قصة لو كنا بها والملوك نعتبر.

من فوائد الحديث:

1- القصة مما صح من أخبار بني إسرائيل التي رواها النبي صلى الله عليه وسلم .

2- فيه إثبات أنه مسجد وكان اسمه المسجد الأقصى في عهد بني إسرائيل وليس هيكلًا كما يدِّعي يهود اليوم.

3- ترك الـمُلك والرئاسة والتفرغ للعبادة مزية لا يقوى عليها إلا من امتلأ قلبه بالإيمان وهي فضيلة جليلة تحلى بها هذا الملك الوقور وصاحبه.

4- فيه دليل أن من كان قبلنا من مؤمني بني إسرائيل كانوا يقيمون الصلاة في المسجد الأقصى.

5- وأن صلاة الليل كانت هدي وشريعة من كان قبلنا.

6- وفيه إشارة من عبدالله بن مسعود أن عنده علمًا تفصيليًا من خبر النبي صلى الله عليه وسلم  له بمكان قبرهما.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك