الأربعون الفلسطينية الْحَديثُ الثَّانِي الْعِشْرُون (1) النَّبِيُّ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِالْبَرَكَةِ لِلشَّامِ
العلاقة بين الشام واليمن علاقة ممتدة عبر التاريخ قبل الإسلام وبعده وحتى قيام الساعة
حشد شراح الحديث جملة كبيرة من ثمرات البركة المتحصلة للشام وأهلها فشملت الزمان والمكان والسكان
كتاب الأحاديث الأربعون الفلسطينية، وثيقة نبوية تؤكّد ارتباط الأرض المقدسة فلسطين برسالة التوحيد عبر الأزمان كلها أولها وأوسطها وآخرها ، إنها أحاديث المصطفى[ التي تشد العالمين إلى أرض فلسطين، إنها زبدة أحاديث سيد المرسلين حول فلسطين وأهلها, صحيحة صريحة تبعث فينا الأمل والجرأة في الحق، وصدق اليقين، ولقد لقي متن كتاب: (الأحاديث الأربعون الفلسطينية) قبولا واسعا؛ فقد تدافع كثيرون إلى ترجمته إلى لغاتهم؛ فاستحق أن يكون لهذا المتن شرح يليق به، وها نحن أولاء نشرح هذه الأحاديث في هذه السلسلة المباركة، واليوم مع شرح الحديث الثاني والعشرون:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في يَمَنِنَا» وفي رواية: «اللهم بارك لنا في مكتنا، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا»، قالوا: يا رسول الله، وفي نَجْدِنَا! وفي رواية: «وفي عراقنا»، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا» قالوا: يا رسولَ الله، وفي نَجْدِنَا! فأظنه قَالَ في الثالثة: «هُنَاكَ الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ، وَبِهَا، وفي رواية:منها، يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَان»، وفي رواية: «حَيْثُ يَطْلُعُ جِذْلُ الشَّيْطَانِ».
شرح الحديث:
إن العلاقة بين الشام واليمن علاقة ممتدة عبر التاريخ، قبل الإسلام، وبعده، وحتى قيام الساعة، وكانت أول رابطة عقدية وتحالفية بين الشام واليمن حينما أعلنت بلقيس ملكة سبأ عن التحالف الإسلامي بينها ومملكتها وبين نبي الله سليمان وشريعته وما تضمنته من توحيد لله، كما أخبرنا -تبارك وتعالى- على لسانها فقال الله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(النمل:44) .
وذلك لما أتاها خطاب نبي الله سليمان مع الهدهد موصيا إياه كما أخبرنا الله -تعالى- على لسان سليمان: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} (النمل:28). يحمله الهدهد محلقًا به من سماء فلسطين إلى اليمن حينها تأسست أول مملكة للإيمان بين الشام واليمن .
قوله : «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا»؛ فالمراد زيادة البركة أو البركة الحاصِلةُ لِأَهل المدينة وسائر المؤمنين على الخصوص قال ابن عبد البر: دعاؤه للشام يعني لأهلها، كتوقيته لأهل الشام (الجحفة)، ولأهل اليمن (يلملم)، علما منه بأن الشام سينتقل إليها الإسلام، وكذلك وقَّت لأهل نجد قرنًا يعني علمًا منه بأن العراق ستكون كذلك، وهذا من أعلام نبوته.
ومما جاء ذكره في كتاب الله عن بركة الشام :
قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}(الأعراف: ١٣٧).
وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}(الأنبياء: ٨١).
وقال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:٧١).
وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ}(سبأ: ١٨).
البركة في الشام ومقصودها:
قال ابن جرير الطبري في تفسيره قوله تعالى : {باركنا فيها}، التي جعلنا فيها الخير ثابتًا دائمًا لأهلها. وقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الإسراء:1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مؤكدًا أن البركة المعقودة في الشام بشقيها، والبركة: تتناول البركة في الدين، والبركة في الدنيا، وكلاهما معلوم في الشام لا ريب فيه.
قال صاحب (فتح الرحمن) موضحًا مفهوم البركة وحجمها في قوله تعالى: {باركنا حوله}، هو أعم من أن يقال: باركنا عليه،أو فيه؛ لإفادته شمول البركة، ولما أحاط بالمسجد من أرض الشام بالمنطوق ، وللمسجد بمفهوم الأولى.
أما البروفيسور عبدالفتاح العويسي المقدسي فيحدد البركة بدوائر ثلاث تحيط بالمسجد الأقصى في نظرية سماها (دائرة البركة لبيت المقدس) استنبطها من مفهوم نظرية الدوائر المستخدمة في العلوم السياسية مُركزًا على كلمة (حوله) التي جاءت في مطلع سورة الإسراء، بوصفها محورًا تدور حول الهدف وهو الدائرة الأولى وهو المسجد الأقصى وهو مركز البركة التي تحيطه البركة في دوائر ثلاث، ثم دائرة البركة الثانية التي تشمل بلاد الشام وجزءًا كبيرًا من مصر، أما الدائرة الثالثة المنطلقة من مفهوم من وإلى وهي الكلمات التي رسمت بداية ونهاية الرحلة الأرضية للرسول ليلة الإسراء التي لخصت علاقة التوأمة بين المسجدين، كما أنه يرى أن البركة تصل إلى جميع أنحاء العالم بنسب متفاوتة.
السبب في بركة الشام:
حشد الشراح جملة كبيرة من ثمرات البركة المتحصلة للشام وأهلها, فشملت الزمان والمكان والسكان؛ ومما قيل في ذلك: لكثرة خصبها وثمارها وأنهارها؛ ولأنها معادن الأنبياء، والبركة ثبوت الخير، ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح. أي: من يهاجر إلى مهاجره وهو الشام، لبقائها في ولاية المسلمين تحميها جنودهم منصورين على من يحاربهم ويتخطى خططهم، كما هو في هذا العصر، ولعل الحديث إشارة إليه.
قال الرازي في تفسيره معللًا سبب البركة: أما في الدين؛ فلأن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا منها، وانتشرت شرائعهم وآثارهم الدينية فيها، وأما في الدنيا؛ فلأن الله -تعالى- بارك فيها بكثرة الماء والشجر، والثمر والخصب، وطيب العيش.
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي -رحمه الله-: ومن بركة الشام أن كثيرًا من الأنبياء كانوا فيها، وأن الله اختارها، مُهاجَرًا لخليله، وفيها أحد بيوته الثلاثة المقدَّسة وهو بيت المقدس.
هل بركة الشام لازمة لكل أهلها ومن عصى منهم :
بعض الناس قد يكون مقامه في غير الشام أفضل له وبعيدا عنها أطوع منه فيها مع جليل فضلها, وبعض أهلها لما خرجوا منها إلى غيرها كانوا في غيرها أطوع لله ولرسوله؛ لذا أدرك الصحابة ومع جلالة قدر الأرض المقدسة , إلا أنها في النهاية لا تقدس أحدا, فقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي -رضي الله عنهما- يقول له: هلمَّ إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تُقدِّسُ أحدًا، وإنما يقدس الرجل عمله، وهو كما قال سلمان الفارسي وهي التي عبر عنها شيخ الإسلام بأنها: أوصاف عارضة، ليست لازمة، فقد تنتقل من وصف إلى وصف، كما ينتقل الرجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم، وكذلك بالعكس. .
وأما الفضيلة الدائمة, والمنقبة الحاضرة, هي ما أوجزها شيخ الإسلام بقوله: «وأما الفضيلة الدائمة في كل وقت ومكان ففي الإيمان والعمل الصالح». وهي الأساس وبها العبرة؛ فلا ينبغي للرجل أن يلتفت إلى فضل البقعة على حساب ما عند أهلها من إيمان ، بل يعطى كل ذي حق حقه، ولكن العبرة بفضل الإنسان في إيمانه وعمله الصالح والكلم الطيب. وهذا الذي فقهه سلمان الفارسي لما دعاه أبو الدرداء لسكنى الشام .
وقد يحصل في الأفضل معارض راجح يجعله مفضولًا؛ مثل من يجاور بمكة مع السؤال والاستشراف، والبطالة عن كثير من الأعمال الصالحة، وكذلك من يطلب الإقامة بالشام؛ لأجل حفظ ماله وحرمة نفسه، لا لأجل عمل صالح، فالأعمال بالنيات.
وجملة الفضائل المتعلقة بالشام وأهلها كانت هي الدافع لشيخ الإسلام لتوثيب الناس في الشام لمدافعة التتار، وهو ما ذكره عن نفسه كما جاء في مقدمة كتابه (مناقب الشام وأهله): ثبت للشام وأهله مناقب بالكتاب والسنة وآثار العلماء، وهي أحد ما اعتمدته في تحريضي للمسلمين على غزو التتار، ولزوم دمشق، والنهي عن الفرار إلى مصر.
والشام مهما بلغ بها ما بلغ؛ فتبقى مقدمة على غيرها في الفضل والحرص على لزومها والسكنى فيها, فقد ثبت عن ابن شوذب قال: تذاكرنا الشام، قال: فقلت: لأبي سهل: أما بلغك أنه يكون بها كذا؟ قال: بلى، ولكن ما كان بها فهو أيسر مما يكون بغيرها. وكما امتدح المصطفى الشام وأهلها فقد امتدح كذلك اليمن وأهلها.
قوله : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في يَمَنِنَا: أي: بركةً ظاهريَّة ومعنويّة؛ ولهذا كثر الأَولياءُ فيهم، والظَّاهر في وجه تخصيص المكانين بالبركة؛ لأنّ طعام أهل المدينة مجلوب منهما. قال الأشرف: إِنّما دعا لهما بالبركة؛ لأنّ مولِده بمكّة، وهو من اليمن، ومسكنه ومدفنه بالمدينة، وهي من الشَّام، وناهيك من فضل النّاحيتين أنّ إحداهما مولده، والأخرى مدفنه، فإِنّه أضافهما إِلى نفسه، وأتى بضمير الجمع تعظيما وكرر الدُّعاء ثلاث مرَّات.
لاتوجد تعليقات