رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 24 أكتوبر، 2011 0 تعليق

الأربعــون الوقفيــة (7)

 

جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وأحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وغيرها، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكام وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.

-  والحديث السابع، جمع سبعة من الأعمال التي تُعد من الوقف الإسلامي التي تجري فيها الحسنات لصاحبها إلى ما بعد الممات، وتنوع تلك الأعمال لتوسيع دائرة الاختيار، وهذا من فضل الله تعالى على عباده ورحمته بهم أن فتح لهم أبواباً من الخير ما يدوم فيها الأجر والمثوبة .  

سبعٌ من الوقف

      عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله [: «سبع يجري للعبد أجرهُنَّ وهو في قبره بعد موته: من علّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورَّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته»(1).

      من نعم الله تبارك وتعالى على عباده المؤمنين أن هيأ لهم أبواباً من البر والخير والإحسان عديدة, يقوم بها العبد الموفق في هذه الحياة, ويجري ثوابها عليه بعد الممات, فأهل القبور في قبورهم مرتهنون, وعن الأعمال منقطعون, وعلى ما قدموا في حياتهم محاسبون ومجزيون, وبينما هذا الموفق في قبره الحسنات عليه متوالية, والأجور والأفضال عليه متتالية, ينتقل من دار العمل, ولا ينقطع عنه الثواب, تزداد درجاته, وتتناما حسناته، وتتضاعف أجوره وهو في قبره, فما أكرمها من حال, وما أجمله وأطيبه من مآلٍ!. وهذا ما أخبرنا به حبيبنا محمد أن أموراً سبعة يجري ثوابها على الإنسان في قبره بعدما يموت وتفصيلها الآتي:

- أولاً: تعليم العلم ونشره: ذلك العلم النافع  الذي يبصر الناس بدينهم ,ويعرفهم بربهم ومعبودهم, ويهديهم إلى صراطه المستقيم, وعندما يموت العالم تبقى علومه بين الناس موروثة, ومؤلفاته وأقواله بينهم متداولة, وهو في قبره تتوالى عليه ويتتابع عليه الثواب، ويبقى جاريا على صاحبه لا ينقطع بموته.

- ثانياً: إجراءُ النهر: من شق الجداول والأنهار، وتسهيل مجاريها، لتوفير الماء لكل من يحتاجه، وتيسير الوصول له، والانتفاع به ليروى منه الناس، وكذلك زروعهم وماشيتهم، فكل في هذا العمل من خير وأجر، ويلحق بإجراء النهر كل ما جرى فيه الماء من سبيل ومد الأنابيب، وتوفير الماء في الطرق وتجمعات الناس، ومن أعظم ما وثق التاريخ في الانتفاع بالماء، الوقف الذي قامت بإنشاءه «زبيدة»  بنت جعفر المنصور، زوجة هارون الرشيد، حينما رأت أثناء حجها ما يعانيه الحجاج من نقص المياه، فأمرت بحفر نهر جار يتصل بمساقط مياه المطر, ونفذت وقفها بأن مهّدت طريقاً للحجاج من بغداد إلى مكة، وأنشأت في هذا الطريق مرافق ومنافع وآبار ظل يستفيدُ منها حجاج بيت الله الحرام منذ أيامها إلى وقت قريب. 

- ثالثاً: حفر الآبار: حبس الماء في الآبار فيه الأجر من الله تعالى والنفع لكل كبد رطب، جاء عن سعد بن عبادة – ] - أنه قال: «يا رسول الله، إن أُم سعد ماتت، فأي الصدقة أفضل؟ قال: «الماء»؛ فحفر بئراً، وقال: هذه لأم سعد»(3).

      وجاء في السنة أن النبي صلى صلى الله عليه وسلم  قال: “بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب فشكر الله له، فغفر له، قالوا يا رسول الله! وإن لنا في هذه البهائم لأجرا؟ فقال: «في كل كبد رطبة أجر»(4).

      فكيف إذاً بمن حفر البئر وتسبب في وجودها حتى ارتوى منها خلقٌ, وانتفع بها كثيرون، وسهلت للناس في حلهم وترحالهم .

- رابعاً: غرس النخل: النخل سيد الأشجار وأفضلها وأنفعها وأكثرها فائدة على الناس, فمن غرس نخلاً وسبل ثمره للمسلمين فإن أجره يستمر كلما طعم من ثمره طاعم, وكلما انتفع بنخله منتفع من إنسان ٍأو حيوان, وهكذا الشأن في غرس كل ما ينفع الناس من الأشجار , وإنما خص النخل هنا بالذكر لفضله وتميز(ه). والغرس صدقة إلى يوم القيامة، عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله[: «ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له منه صدقة» (6). وفي غرس النخل والزروع نماء للمجتمع، وتوفير الحاجيات الأساسية، وتحقيق الأمن الغذائي، والإسهام في عملية التنمية الاقتصادية، وزيادة عوامل الإنتاج كمّاً ونوعاً.

- خامساً: بناء المساجد: إعمار وبناؤها المساجد من الصدقة الجارية، وهي أحب البقاع إلى الله، فالأجر لبانيه ما أذن فيه مؤذن، وما أقيمت فيه صلاة، وما ذكر فيه الله تعالى ونشر فيه العلم، وقد ثبت عن النبي[ قال: «من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة»(7).

- سادساً: توريث المصحف: وذلك بنسخ المصاحف كما كان في العهود السابقة، وطباعة المصاحف ونشرها ووقفها في المساجد، والمستشفيات وأماكن الانتظار والتجمعات، ولواقفها أجرٌ عظيم ٌكلما تلا في ذلك المصحف تالٍ, وكلما تدبر فيه متدبر, وكلما عمل بما فيه عامل.

- سابعاً: الولد الصالح: والولد الصالح هو كل مولود من ذكر أو أنثى قائم بحقوق الله تعالى، وحقوق العباد، صالح في نفسه، ومصلح لغيره، والذي اجتهد أبواه في تربيته تربية صالحة، ليكون ابناً باراً بأبويه، فنشأ على طاعة الله تعالى، داعياً لأبويه بالخير، يسأل الله لهم الرحمة والمغفرة، فهذا مما تستمر فيه الحسنات بعد الممات.

      وقد ورد في معنى الحديث المتقدم ما رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة ] قال، قال رسول الله [:«إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره , وولداً صالحاً تركه, ومصحفاً ورثه أو مسجداً بناه, أو بيتاً لابن السبيل بناه , أو نهراً أجراه , أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته» 8.

      والوقف بشموله وتنوعه جمع خير الدنيا والآخرة، ففي الأولى كان وما زال الوقف داعماً رئيساً للتنمية والحضارة، وفي الآخرة الثواب والأجر المستمر بفضل الله ومنّه على خلقه. فهو وسيلة عظيمة بعد انقضاء الأجل لرفع الدرجات والتكفير عن السيئات، هذا من جانب النفع العائد على الموقف أما المنافع التي تعود على الأحياء وعلى المجتمع بأسره فكثيرة وعظيمة. فعلى كل مسلم الحرص على أن يكون له من الأعمال التي يدوم نفعها في آخرته.

      فوائد من الحديث : الحديث دليل على فضل الوقف وأنه من الصدقات الجارية والإحسان المستمر، وفيه دليل على جريان الحسنات للواقف بعد الممات. فينتفع المسلم بآثار ما عمله في حياته وخير الأعمال هي «الوقف»، < وفيه أن الأصل في الوقف أن يكون ذو منفعة دائمة مستمرة، وفيه أن مقصود الوقف التقرب إلى الله تعالى، فلا يحصل ذلك إلا بالأعمال التي فيها طاعة الله وإتباع هدي رسوله [.

- وفيه أن من مقاصد الوقف الوصول إلى أكبر عدد ممكن من المستفيدين بتنوع الأعمال والمشاريع الوقفية. وفيه أن الوقف باب لتوفير الحياة الكريمة لكل إنسان في المجتمع المسلم، < وفيه أن الوقف منبع لإشاعة التراحم والمحبة بين أفراد المجتمع وتقديم الخدمات العامة للمجتمع المسلم.

- وفيه أن الوقف الإسلامي من سماته الشمول فهو إما خيري أو ذري أوكلاهما، وكذلك التنوع فإما أن يكون للحاجات المادية كالمأكل والمشرب والملبس والعلاج، أو لتوفير الحاجات المعنوية كالتعليم والتطوير، أو للحاجات النفسية كإدخال السرور في النفوس، وتوفير الحياة التي تحفظ للإنسان كرامته. 

      ولا شك أن أفضل الوقف ما كان أكثر نفعاً(9)- ما عم نفعه ودام ظلّه-  وهو يختلف باختلاف الزمان والمكان والحاجة الماسة له، ولذلك ينبغي للواقف أن يستشير من يثق بدينه وعلمه وخبرته وإطلاعه قبل أن يوقف، وأن يعمل على استدامته في حياته وبعد موته ببذل الأسباب التي يدوم فيها الوقف ومنفعته. وقد هيأ الله تبارك وتعالى – في عصرنا - مؤسسات وقفية تنشر ثقافة الوقف وترعى الأوقاف، وتجمع الأسهم الوقفية وتتبنى المشاريع الوقفية، وتيسر للناس سبل الإسهام والمشاركة في المشاريع الوقفية، فالوقف يقاس بانتشاره وحجمه وتنوعه وبثقافة المجتمع وتدينه، وتحمل مسؤولياته، وفيه المؤشرات والدلالات الكثيرة على وعي المجتمع وتدينه وسعيه لتخفيف معاناة أهل الحاجة.

الهوامش

1- حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع برقم :3596./ 3602/

2 - الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد، مقال بعنوان: «سبع يجري للعبد أجرهن»www.al-badr.net.

3 - رواه أبو داود، برقم 1678. وحسنه الألباني في صحيح أبي داود،  برقم 1474.

4 - رواه مسلم في صحيحه، برقم 2244.

5 - الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد، مقال بعنوان: «سبع يجري للعبد أجرهن»www.al-badr.net.

6- أخرجه البخاري في الأدب، باب: «رحمة الناس والبهائم»، برقم (6012) ومسلم في المساقاة والمزارعة، باب: فضل الغرس والزرع، برقم (1552).

7- مصنف ابن أبي شيبة 1/310.

8- حسنه الألباني رحمه الله في صحيح ابن ماجه برقم 198.

9- قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتابه منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين، باب الوقف: وهو من أفضل القرب وأنفعها إذا كان على جهة بر، وسلم من الظلم .. وأفضله : أنفعه للمسلمين. أنظر منهاج السالكين وتوضيح الفقه في الدين، ص 62-63. 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك