رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 19 سبتمبر، 2011 0 تعليق

الأربعــون الوقفيــة (2)

 

 جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، وأعددت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وغيرها، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاما وفوائد جمة عظيمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف والهيئات والمؤسسات برعاية الأصول الوقفية، ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.

      والحديث الثاني، حديث مشهور، ويعد دليلا على مشروعية الوقف النافع والحث عليه، وأنه من أفضل الأعمال التي يقدمها الإنسان لنفسه في الآخرة؛ فهو من الصدقة الجارية الباقية بعد الموت.

الحديث الثاني:

الوقف من الصدقة الجارية

      عن أبي هريرة ] أن رسول الله [ قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».

      من نعم الله تبارك وتعالى على عباده أن جعل أبواب الخير عديدة، ومنها ما يجري فيها الثواب إلى ما بعد الممات، فتزداد الحسنات في السجلات؛ لأن ثوابها لا ينقطع، بل هو دائم متصل النفع.

      قال العلماء : معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة; لكونه كان سببها; فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية ، وهي الوقف.

      فالإنسان إذا مات ينقطع عمله الذي يجري عليه بعد الموت، والعمل إنما يكون في الحياة، إلا من هذه الثلاث؛ لأنه السبب فيها، وثوابها يدوم للإنسان بعد موته لدوام أثرها، وأولها: «صدقة جارية» وهي الخير المستمر، كبناء المساجد، أو أرضٍ زراعية يتصدق بما يحصل منها على الفقراء، فإن الفقراء ما داموا ينتفعون بهذا العطاء أو ينتفعون بثمرة هذا البستان فإنه يكتب له، أو عمارة توقف تؤجر ويتصدق بأجرتها، وغيرها من الأوقاف، فتلك صدقة جارية يجري عليه أجرها بعد وفاته، ما دامت ينتفع بها الناس.

      «أو علم ينتفع به»، إما كتب علمية صنفها، وانتفع بها الناس، أو اشتراها، ووقفها وانتفع بها الناس، ونشر العلم وتعليمه، وكل من عَلم الناس العلم النافع، وانتفعوا بعلمه بعد موته فإن له أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء؛ لأن الدال على الخير كفاعل الخير، وهذا دليل على بركة العلم وفائدته في الدنيا والآخرة.

      فكم من عالم مات من مئات السنين، وعلمه باق ينتفع بما كتبه وصنفه، وتتداوله الأجيال تلو الأجيال من بعده، وكلما ذكره المسلمون دعوا له وترحموا عليه، وكم أنقذ الله بعالم مصلح أجيالاً من الناس من الضلالة، وناله مثل أجور من تبعه إلى يوم القيامة، قال العلماء : والكتب أعظمها أثراً لطول بقائها.

      «أو ولد صالح يدعو له» والولد الصالح من ذكر وأنثى وولد الصلب وولد الولد يجري نفعهم لآبائهم بدعواتهم الصالحة المستجابة لآبائهم، فكل من كان له ولد أحسن تربيته وتوجيهه فكان صالحاً، ينفع أباه في حياته ببره، وبعد مماته في دعائه له، وهذا من فضل الله تعالى على عباده أن جعل جريان الحسنات، واستمرارها بعد الممات، ليس مقصوراً على أهل الأموال والعقار الذين أوقفوا من ممتلكاتهم، بل أن ذلك الأجر جعله الله تعالى لمن اجتهد في العلم تأليفاً وتعليماً، وكذلك لمن ترك ولداً صالحاً يدعو لوالده. 

      والأمور المذكورة في هذا الحديث هي مضمون قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} (يس:12)، فما قدموا هو ما باشروا فعله في حياتهم من الأعمال الحسنة والسيئة، وآثارهم: ما يترتب على أعمالهم بعد موتهم من خير أو شر.

      والحديث دليل على مشروعية الوقف النافع والحث عليه، وأنه من أفضل الأعمال التي يقدمها الإنسان لنفسه في الآخرة؛ فهو من الصدقة الجارية الباقية بعد الموت، قال النووي في شرحه على مسلم: فيه دليل لصحة أصل الوقف، وعظيم ثوابه، وبيان فضيلة العلم.

وما يصل إلى العبد من آثار عمله بعد موته ثلاثة أشياء:

الأول: أمور عملها غيره بعد موته بسببه وبدعوته وتوجيهه إليها قبل موته.

الثاني: أمور انتفع بها غيره من مشاريع نافعة أقامها الميت قبل موته أو أوقاف أوقفها في حياته فصارت تغل بعد موته.

الثالث: أمور عملها الحي وأهداها إلى الميت من دعاء وصدقة وغير ذلك من أعمال البر.

قال صاحب «عون المعبود»: وورد في أحاديث أخرى زيادة على الثلاثة تتبعها الحافظ السيوطي ونظمها في قوله:

إذا مات ابن آدم ليس  يجري

                                    عليــــه من فعـــــال غيـــر عــشــر

علــوم بثــهـا ودعـــــــاء نجـــل

                                    وغرس النخل والصدقات تجري

وراثـــة مصحــــف ورباط ثــغـــر

                                    وحفــــر البــــئر أو إجـــراء نهــــر

وبيـــت للغــــريب بنــــاه يـــأوي

                                    إليــــه أو بنــــاه محـــل ذكــر

وتعـــليــــم لقـــــرآن كريـــــم

                                    فخــذها من أحاديث بحصر

وسبقه إلى ذلك ابن العماد فعدها ثلاثة عشر وسرد أحاديثها، والكل راجع إلى هذه الثلاث.

من فوائد هذا الحديث:

      هو دليل على جواز الوقف، وأن الوقف من الصدقة الجارية الباقية بعد الموت، وفيه أن الصدقة تصل إلى الميت وتجري الحسنات إلى ما بعد الممات، وفي هذا إجماع الأمة، وفيه أن الصدقة الجارية عمل قد أتاحه الله تعالى بفضله لعباده، الأغنياء منهم، والعلماء، وعامة الناس، فكم من مسكين لا يملك مالاً، ولا علماً ، ولكنه ترك ولدا صالحا يدعو له، وبذلك يكون له الأجر المستمر بعد مماته.

      وفيه حث على الزواج لطلب الأولاد الصالحين، والحث أيضاً على تربية الأولاد على الصلاح، وتنشئتهم على الدين ليكونوا خلفاً صالحاً لآبائهم يدعون لهم بعد موتهم، ويستمر نفع عملهم بعد انقطاع أعمالهم. وفيه تنبيه للآباء الذين يهتمون بإصلاح أموالهم، ولا يبالون بصلاح أولادهم في حياتهم؛ وفيه أيضاً مشروعية دعاء الأولاد لآبائهم مع دعائهم لأنفسهم في الصلوات وخارجها، وهذا  من البر الذي يبقى بعد وفاة الآباء.

      وفيه أن العمل الذي يجري للعبد فيه الأجر بعد مماته هو العلم الذي ينتفع به، أما العلم الذي لا نفع فيه، أو العلم الذي فيه مضرة، والعلوم المفسدة للدين والأخلاق فلا تدخل في الحديث.

      والوقف من الصدقة الجارية، الذي قال في محاسنه شاه ولي الدهلوي: «... وفيه من المصالح التي لا توجد في سائر الصدقات؛ فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالاً كثيراً ثم يفنى، فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى، ويجيء أقوام آخرون من الفقراء فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء حبساً للفقراء وابن السبيل يصرف عليهم منافعه، ويبقى أصله».

      لقد مضى الصحابة - رضوان الله عليهم - على ما سنه النبي [، وعملوا بما حث عليه من الإكثار من الصدقة والإنفاق مما يحبون، وسجلوا أروع الأمثلة في وقف أحب أموالهم إليهم. وإذا كـان المسلم حريصا على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويرجو الثواب في الدنيا والآخرة، فإن الله سبحانه فتح أمامه أبواب الخير العديدة ومنها الصدقة الجارية والوقف، التي يستمر بها الأجر إلى ما شاء الله تعالى، وتزيد بها حسناته بعد وفاته وانقطاع عمله،  فالطريق لكل مسلم مفتوح في الصدقة الجارية والوقف لله تعالى.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك