رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 16 فبراير، 2021 0 تعليق

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية – من المسائل المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام – حكم الإكراه على الفاحشة

قال -تعالى-: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} (سورة يوسف:33-35).

     قال الشيخ ابن سعدي: «هذا يدل على أن النسوة جعلن يشرن على يوسف في مطاوعة سيدته، وجعلن يكدنه في ذلك؛ فاستحب السجن والعذاب الدنيوي على لذة حاضرة توجب العذاب الشديد، {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي: أمل إليهن، فإني ضعيف عاجز، إن لم تدفع عني السوء، {وَأَكُنْ} إن صبوت إليهن {مِنَ الْجَاهِلِينَ} فإن هذا جهل؛ لأنه آثر لذة قليلة منغصة، على لذات متتابعات وشهوات متنوعات في جنات النعيم، ومن آثر هذا على ذاك، فمن أجهل منه؟ فإن العلم والعقل يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللذتين، ويؤثر ما كان محمود العاقبة»، فمن المسائل المستفادة من الآيات الكريمة مسألة الإكراه على الزنا، وهل للمكرَه أن يقدم على الزنا؟ وإذا أكره شخص على الزنا فهل يأثم ويقام عليه الحد أم أن الإكراه يؤثر في إسقاط الإثم والحد؟

وقبل بيان مذاهب العلماء في هذه المسألة لابد من تعريف الإكراه وبيان حكمه:

أولا: تعريف الإكراه

الإكراه هو حمل الآخَر على أمر يمتنع منه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه، ويصير الآخَر خائفا به فائت الرضا بالمباشرة. أي: أن في الإكراه إلزاماً للآخر قهراً على فعل أمر لا يريده ولا يحبه.

ثانيا: حكم الإكراه

الإكراه بغير حق: هو الإكراه المحرم شرعًا لتحريم وسيلته أو لتحريم المطلوب به، وهو الذي وردت بشأنه النصوص الشرعية الدالة على عدم اعتبار ما يصدر من المكرَه بغير حق من تصرفات، ومن هذه الأدلة:

1- قوله -تعالى-: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (سورة النحل:106)، قال القرطبي: «لما سمح الله -تعالى- بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم».

2- قوله -تعالى-: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة النور:33) والشاهد في قوله -تعالى-: {فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}؛ حيث استثنى الإكراه على الزنا من الإثم والعقوبة.

3- عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» أخرجه ابن ماجه و صححه الألباني.

قال ابن حجر الهيتمي: «فجعل فعل المكره الذي وجدت فيه شروط الإكراه في كتب الفقهاء فعلا، فكل ما كان الحكم فيه مرتبا على فعل المكلف يكون بسبب الإكراه لغواً بمنزلة المعدوم».

ثالثا: حكم الإقدام على الزنى تحت تأثير الإكراه

اختلف الفقهاء في هذه المسألة على مذهبين:

المذهب الأول

لا يحل للرجل الإقدام على الزنى تحت تأثير الإكراه فإن فعل فهو آثم، وهو قول الحنفية في الإكراه الملجئ والشافعية وقول بعض المالكية وأبي ثور والحسن، ودليلهم:

أن حرمة الزنا لا ترتفع بحال، فكما لا يرخص فيه في حالة الاختيار فكذلك لا يرخص فيه عند الإكراه.

المذهب الثاني

     يجوز للمكرَه الإقدام على الزنى تحت تأثير الإكراه الملجئ، وهو قول ابن العربي من المالكية وقال: الصحيح أنه يجوز الإقدام على الزنى ولا حدّ عليه، خلافا لمن ألزمه ذلك؛ لأنه رأى أنها شهوة خلقية لا يتصور الإكراه عليها، وغفل عن السبب في باعث الشهوة وهو الإلجاء إلى ذلك وهو الذي أسقط حكمه، وإنما يجب الحد على شهوة بعث عليها سبب اختياري.

رابعا: أثر الإكراه في سقوط حدّ الزنى

(1) أثر الإكراه في سقوط حدّ الزنى عن المرأة: قال القرطبي: إذا استكرهت المرأة على الزنى فلا حدّ عليها لقوله -تعالى-: {إلا من أكره} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، وقوله -تعالى-: {فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وبهذا المعنى حكم عمر في الوليدة التي استكرهها العبد فلم يحدّها، والعلماء متفقون على أنه لا حدّ على امرأة مستكرهة.

(2) أثر الإكراه في سقوط حدّ الزنى عن الرجل: اختلف الفقهاء على مذهبين:

المذهب الأول

 يجب الحدّ على الرجل إذا أكره على الزنى

     وهو قول أبي حنيفة والمالكية في المشهور والشافعية في قول والحنابلة على الصحيح من مذهبهم، ودليلهم: أن الوطء لا يكون إلا بالانتشار الحادث بالاختيار؛ إذ إن الإكراه ينافي الانتشار الذي هو علامة الشهوة التي لا تحصل إلا بالطواعية والاختيار، فأصبح المكرَه على الوطء كالمختار لا فرق بينهما، فالشبهة عندهم هي عدم تصور الإكراه على الزنى.

المذهب الثاني

لا يجب الحد على الرجل إذا أكره على الزنى

     وهو قول الصاحبين والمالكية في المختار والشافعية في الأظهر والحنابلة في قول، ودليلهم: عموم النصوص الدالة على إلغاء أثر التصرفات الواقعة تحت تأثير الإكراه، وأن الحدود تدرأ بالشبهات، والإكراه شبهة؛ لأن الظاهر أن المكرَه غير راض بالزنى ولا مختار له، ولا فارق بين الرجل والمرأة في ذلك؛ لأن الرجل في الخوف على حياته كالمرأة في ذلك؛ وحيث سقط الحدّ عن المستكرهة فينبغي أن يسقط عن المكرَه كذلك.

ومعلوم أن الإكراه المؤثر له شروط دقيقة وضوابط محكمة للتأكد من تحقق الإكراه الموجب لرفع أثر التصرفات، فإذا توفرت تلك الشروط فالنصوص الشرعية تدل على عذر المكرَه.

     قال القرطبي: «أكره يوسف -عليه السلام- على الفاحشة بالسجن، وأقام خمسة أعوام، وما رضي بذلك لعظيم منزلته وشريف قدره، ولو أكره رجل بالسجن على الزنا ما جاز له إجماعا، فإن أكره بالضرب فقد اختلف فيه العلماء، والصحيح أنه إذا كان فادحا فإنه يسقط عنه إثم الزنا وحـدّه. وقد قال بعض علمائنا: إنه لا يسقط عنه الحد، وهو ضعيف؛ فإن الله -تعالى- لا يجمع على عبده العذابين، ولا يصرفه بين بلاءين؛ فإنه من أعظم الحرج في الدين، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.

وقال الشيخ ابن عثيمين: «فالصواب بلا شك أن الإكراه في حق الرجل ممكن، وأنه لا حد عليه، ولكن المكرِه يعزر، ولا يحد حد الزنا لأنه ما زنا».

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك