رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 7 نوفمبر، 2022 0 تعليق

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية – بعض الأحكام المستفادة من قصة أيوب عليه السلام «حكم الحيل وأنواعه

لا نزال مع قوله -تعالى-: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (سورة ص:44)، من المسائل الفقهية المستفادة من الآية الكريمة مسألة (حكم الحيل وأنواعها)، قال الجصاص: «وفيها أي الآية دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى ما يجوز فعله، ومنع المكروه بها عن نفسه وعن غيره؛ لأن الله -تعالى- أمره بضربها بالضغث ليخرجه من يمينه، ولا يصل إليها كثير ضرر».

      من المقرر أن الدين الإسلامي يدعو إلى الصدق والأمانة والوفاء بالالتزامات، ويحرم الكذب والخديعة والغدر، والأدلة على ذلك كثيرة، و(الحيلة) كلمة في عرف الناس تدل على المكر والخديعة، فكيف يقول الجصاص إن هذه الآية تدل على جواز الحيلة؟

مفهوم الحيلة

      والجواب: أن الحيلة في اللغة معنى يدل على الحذق في تدبير الأمور، والتوصل به إلى المطلوب في خفية؛ فهي تدل على الذكاء والحذق فقط، وأما في الاصطلاح الفقهي فالحيلة نوعان (مشروعة، وممنوعة)، قال ابن القيم: «ليس كل ما يسمى حيلة حراما».

الحيل نوعان

وقال: «الحيل نوعان:

النوع الأول: ما يتوصل به إلى فعل ما أمر الله -تعالى- به وترك ما نهى الله عنه

     النوع الأول: وهو نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله -تعالى- به وترك ما نهى الله عنه، والتخلص من الحرام وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي، فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه، وهو ما يعرف بالمخارج الشرعية، وهو مرادف للحيل المشروعة عند بعض الفقهاء كما قال ابن نجيم: «واختلف مشايخنا -رحمهم الله تعالى- في التعبير عن ذلك؛ فاختار كثير التعبير بكتاب الحيل، واختار كثير كتاب المخارج». وفرق بينهما بعضهم كما قال ابن القيم: «ونسميه وجوه المخارج من المضائق، ولا نسميه بالحيل التي ينفر الناس من اسمها»؛ لأن الأسماع تنفر من كلمة (حيل) لدلالتها العرفية الدالة على الخديعة عندهم.

النوع الثاني: يتضمن إسقاط الواجبات وتحليل المحرمات

     وهو نوع يتضمن إسقاط الواجبات وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالما والظالم مظلوما، والحق باطلا والباطل حقا، فهذا النوع الذي اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، وقال الإمام أحمد: «لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق مسلم».

الحيل المشروعة

فالحيل التي تؤدي إلى الحق وتعين عليه (مشروعة)، ويشهد لهذا أدلة منها:

1- قوله -تعالى-: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا} (النساء:98) أي: التحيل على التخلص من الكفار، وهذه حيلة محمودة يثاب عليها فاعلها.

2- قوله -تعالى-: {وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث} (ص:44)، قال ابن القيم: «وهذا يدل على أن كفارة اليمين لم تكن مشروعة بتلك الشريعة، بل ليس في اليمين إلا البر والحنث»، فأذن الله لنبيه أن يتحلل من يمينه بالضرب بالضغث، وهو كان قد حلف أن يضربها ضربات معدودة، وهي في المتعارف الظاهر إنما تكون متفرقة، فأرشده الله إلى طريقة للخروج من يمينه.

3- قوله -تعالى-: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} (يوسف:76)، قال ابن تيمية: «فيه ضروب من الحيل الحسنة».

4- وعن أَبُي أُمَامَةَ بْن سَهْل أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بَعْض أَصْحَاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْأَنْصَار أَنَّهُ اِشْتَكَى رَجُل مِنْهُمْ حَتَّى أَضْنَى فَعَادَ جِلْدَة عَلَى عَظْم، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ جَارِيَة لِبَعْضِهِمْ فَهَشَّ لَهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رِجَال قَوْمه يَعُودُونَهُ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ وَقَالَ: اِسْتَفْتُوا لِي رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فَإِنِّي قَدْ وَقَعْت عَلَى جَارِيَة دَخَلَتْ عَلَيَّ. فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا بِأَحَدٍ مِنْ النَّاس مِنْ الضُّرّ مِثْل الَّذِي هُوَ بِهِ، لَوْ حَمَلْنَاهُ إِلَيْك لَتَفَسَّخَتْ عِظَامه، مَا هُوَ إِلَّا جِلْد عَلَى عَظْم، فَأَمَرَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَأْخُذُوا لَهُ مِائَة شِمْرَاخ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَة وَاحِدَة. أخرجه أبو داود وصححه الألباني.

الحيل الممنوعة

     وأما إذا كانت الحيل تؤدي إلى الباطل وتعين عليه فهي ممنوعة، قال ابن القيم: «فهذه الحيل وأمثالها لا يستريب مسلم في أنها من كبائر الإثم وأقبح المحرمات، وهي من التلاعب بدين الله، واتخاذ آياته هزوا، وهي حرام من جهتها في نفسها؛ لكونها كذبا وزورا، وحرام من جهة المقصود بها، وهو إبطال حق وإثبات باطل».

ويدل على هذا أدلة منها:

1- قوله -تعالى-: {يخادعون الله وهو خادعهم} (النساء:142) قال ابن القيم: «فذم الله -تعالى- المنافقين؛ لأنهم يخادعون الله والمؤمنين، مما يدل على أن مخادعة الله -تعالى- محرمة، والحيل في حقيقتها مخادعة لله -تعالى- فهي حرام من هذه الجهة».

2- أخبر -تعالى- عن أهل الجنة في سورة القلم أنهم لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين، دمر الله جنتهم، قال ابن القيم: «فكان في ذلك عبرة لكل محتال على إسقاط حق من حقوق الله أو حقوق عباده».

3- ما قصه الله -تعالى- عن أصحاب السبت لما احتالوا على ما حرم الله بنصب الشباك يوم الجمعة ورفعها يوم الأحد فمسخهم الله -تعالى- قردة وخنازير، قال بعض السلف: «ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه، إذا الفقيه من يخشى الله بحفظ حدوده وتعظيم حرماته، ليس المتحيل على إباحة محارمه وإسقاط فرائضه».

 5- عن جابر أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: «لا، هو حرام» ثم قال: «قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه» متفق عليه.

 قال الخطابي: «في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى المحرم، وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه».

6- إن تجويز الحيل يناقض مبدأ (سد الذرائع) الذي جاءت به الشريعة، وذلك أن الشرع يسد الطرق المؤدية إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيله، فأين من يمنع الجائز خشية الوقوع في الحرام ممن يعمل الحيل للوصول إليه؟

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك