رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 24 أغسطس، 2021 0 تعليق

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية – بعض الأحكام المستفادة من سورة الكهف – للتعليم قواعد ومناهج ومراتب يراعيها المعلم الحكيم

تقدم ذكر بعض المسائل المستفادة من قوله -تعالى-: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} (سورة الكهف:71)، فقال له الخضر مذكرا بما تقدم من الشرط: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (سورة الكهف: 72) قال ابن كثير: «يعني وهذا الصنيع فعلته قصدًا، وهو من الأمور التي اشترطت معك ألا تنكر عليّ فيها، لأنك لم تحط بها خبرًا، ولها داخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت».

     فللتعليم قواعد ومناهج ومراتب يراعيها المعلم الحكيم تحقيقا لمصلحة المتعلم، فقد يظن المتعلم أن مصلحته في طريقة ما أو دراسة باب معين يتحمس له، في حين يرى المعلم أن المتعلم لم يستعد ذهنه لتلك المرتبة من العلم، أو أن تعلم هذا الباب يوقعه في إشكالات لا يستطيع فهمها، فيصرفه عنه أو ينهاه عن طروقه في بداية طلبه، وهذا ما نلمسه من شرط الخضر على موسى عليهما السلام قال الشيخ ابن سعدي: «إن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء، حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها، فإن المصلحة تتبع، كما إذا كان فهمه قاصرا، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها، أو لا يدركها ذهنه، أو يسأل سؤالا، لا يتعلق في موضع البحث».

 

أهمية الصبر

     وهذا يؤكد أهمية الصبر للوصول إلى المقاصد، وأخص ذلك بلوغ العلم فلا يحصل العلم بغير صبر، قال الشيخ ابن سعدي مبينًا فوائد الآيات: «أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم، وحسن الثبات على ذلك، أنه يفوته بحسب عدم صبره كثير من العلم، فمن لا صبر له لا يدرك العلم، ومن استعمل الصبر ولازمه، أدرك به كل أمر سعى فيه.

سبب حصول الصبر

     ومنها: أن السبب الكبير لحصول الصبر، إحاطة الإنسان علما وخبرة، بذلك الأمر، الذي أمر بالصبر عليه، وإلا فالذي لا يدريه، أو لا يدري غايته ولا نتيجته، ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} فجعل الموجب لعدم صبره، وعدم إحاطته خبرا بالأمر».

عدم الاستعجال بالحكم على الأشياء

     ومن فوائد الآية الكريمة عدم الاستعجال بالحكم على الأشياء بمجرد الظاهر، ولابد من الاستعلام عن التفاصيل، فقد يظهر من خفايا الأمور ما يغير الحكم على الأشياء، قال الشيخ اين سعدي: «الأمر بالتأني والتثبت، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء، حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود»، فقال موسى عليه السلام معتذرا: { قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} (73)، قال ابن كثير: «أي: لا تضيق عليّ وتشدد عليّ؛ ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كانت الأولى من موسى نسيانا». أخرجه البخاري.

النسيان من الأعذار التي ترفع الإثم

     يستفاد من هذه الآية الكريمة أن النسيان من الأعذار التي ترفع الإثم عند ارتكاب بعض الأفعال كمن ترك صلاة نسيانا أو أكل في نهار رمضان ناسيا ونحو ذلك، وهذا يشمل التفريط في حق بعض الناس، قال الشيخ ابن سعدي: «ومنها: أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه لا في حق الله، ولا في حقوق العباد لقوله: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ}».

قبول الاعتذار من المخطئ

     ومن فوائد الآية قبول الاعتذار من المخطئ والمقصر، فقد قبل الخضر اعتذار موسى عليهما السلام، قال عمر رضي الله عنه: «أعقل الناس أعذرهم للناس»، وهذا مما حث عليه الشرع المطهر قال -تعالى-:{وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} (سورة التغابن:14) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» أخرجه أبو داود وصححه الألباني، والمراد بذوي الهيئات: أصحاب المروءات والخصال الحميدة، ومعنى أقيلوا: أي :اعفوا، والعثرات: الزلات.

جلب المصالح ودرء المفاسد

     وقد جاء توضيح تصرف الخضر آخر القصة في قوله -تعالى-: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (79)، ويؤيد هذا حديث البخاري عن ابن عباس مرفوعا قال: «وَكَانَ أَمَامَهُمْ {مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}، فَأَرَدْتُ إِذَا هِيَ مَرَّتْ بِهِ أَنْ يَدَعَهَا لِعَيْبِهَا، فَإِذَا جَاوَزُوا أَصْلَحُوهَا فَانْتَفَعُوا بِهَا»، فهذه الآية دليل من أدلة القاعدة الكلية في جلب المصالح ودرء المفاسد، وتقديم أعظمهما ودفع أدناهما عند التزاحم وعدم إمكان إعمالهما جميعا، فنزع لوح من السفينة يجعلها معيبة وهي مفسدة، وأخذ السفينة ظلما مفسدة أكبر، فرأى الخضر أن بقاء السفينة معيبة بيد أصحابها أولى من كونها سليمة بيد الملك غصبا وظلما، فكان درء المفسدة الأعظم أولى ولو ارتكب المفسدة الأدنى.

     ويقاس على هذه الحالة أمثالها فيما لو تعارضت المفاسد وتعذر درؤها جميعا، قال القرطبي: «في خرق السفينة دليل على أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا، مثل أن يخاف على ريعه ظالما فيخرب بعضه، وقال أبو يوسف: يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم عن البعض».

عمل الإنسان في مال غيره

     وقال الشيخ ابن سعدي: «عمل الإنسان في مال غيره، إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة، أنه يجوز، ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير، كما خرق الخضر السفينة لتعيب، فتسلم من غصب الملك الظالم. فعلى هذا لو وقع حرق، أو غرق، أو نحوهما، في دار إنسان أو ماله، وكان إتلاف بعض المال، أو هدم بعض الدار، فيه سلامة للباقي، جاز للإنسان بل شرع له ذلك، حفظا لمال الغير، وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير، ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز، ولو من غير إذن».

تزاحم المصالح والمفاسد

     فإذا تزاحمت المصالح ولم يمكن تحصيلها جميعا، أو تزاحمت المفاسد ولم يمكن دفعها جميعا فعلى المكلف أن يقدم أعلى المصلحتين ويدفع أعظم المفسدتين، قال شيخ الإسلام: «المؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة كما يعرف الخيرات الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، فيفرق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسنة ليقدم ما هو أكثر خيرا وأقل شرا على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإن من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الشرع لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك