رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 26 أكتوبر، 2021 0 تعليق

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية – بعض الأحكام المستفادة من سورة مريم – حِكَمٌ وأحكام من أخبار الأنبياء في سورة مريم

 

قال -سبحانه-:{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (سورة مريم:58)، ورد ذكر مجموعة من الأنبياء -عليهم السلام- في سورة مريم، منهم زكريا ويحيى وعيسى وأمه مريم وإبراهيم وإسماعيل وإسحق وهارون وإدريس -عليهم السلام-، وهم صفوة البشر، ونخبة الناس الذين اصطفاهم الله -تعالى- لتلقي وحيه وتبليغ رسالته، وفي أخبارهم عبرة وعظة وحكم وأحكام، لذا نبه الله -تعالى- على فضلهم، ولزوم اتباع هديه في هذه الآية الكريمة.

     قال الشيخ ابن سعدي: «لما ذكر هؤلاء الأنبياء المكرمين، وخواص المرسلين، وذكر فضائلهم ومراتبهم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} أي: أنعم الله عليهم نعمة لا تلحق، ومنة لا تسبق، من النبوة والرسالة، وهم الذين أمرنا أن ندعو الله أن يهدينا صراط الذين أنعمت عليهم، وأن من أطاع الله، كان {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} الآية.

خير بيوت العالم

     وأن بعضهم {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أي: من ذريته {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ} فهذه خير بيوت العالم، اصطفاهم الله، واختارهم، واجتباهم، وكان حالهم عند تلاوة آيات الرحمن عليهم، المتضمنة للإخبار بالغيوب وصفات علام الغيوب، والإخبار باليوم الآخر، والوعد والوعيد، {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} أي: خضعوا لآيات الله، وخشعوا لها، وأثرت في قلوبهم من الإيمان والرغبة والرهبة، ما أوجب لهم البكاء والإنابة، والسجود لربهم، ولم يكونوا من الذين إذا سمعوا آيات الله خروا عليها صما وعميانا».

فمن المسائل المستفادة من هذه الآية الكريمة (مشروعية سجود التلاوة للتالي والمستمع)، وهنا وقفات:

الوقفة الأولى

- ما سجود التلاوة؟ وما حكمه؟

سجود التلاوة هو السجود الذي يؤدى عند قراءة آية من آيات السجدة، وهي خمس عشرة آية في القرآن الكريم، ولها علامة تدل عليها.

واتفق الفقهاء على أن سجود التلاوة مشروع للأدلة الواردة في شأنه، ومنها هذه الآية قال ابن كثير: «إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه، سجدوا لربهم خضوعا واستكانة، وحمدا وشكرا على ما هم فيه من النعم العظيمة، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا، اقتداء بهم، واتباعا لمنوالهم».

واختلف الفقهاء في سجود التلاوة هل هو واجب؟ على مذهبين:

- المذهب الأول: سجود التلاوة واجب وهو قول الحنفية ورواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام، ودليلهم:

(1) أن الله -سبحانه- و-تعالى- أمر به في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وذمّ من تركه فقال: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ}، مما يدل على وجوبه.

(2) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار» أخرجه مسلم. وهو ظاهر الدلالة على الوجوب لقوله: (أمر).

المذهب الثاني: سجود التلاوة سنة مؤكدة، وهو قول الجمهور، ودليلهم:

(1) عن زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - (والنجم) فلم يسجد فيها. متفق عليه. ولو كان واجبا لما تركه - صلى الله عليه وسلم .

(2) وروى البخاري عن عمر أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد فسجد الناس معه، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: «يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه»، ولم يسجد عمر رضي الله عنه وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكروا عليه، مما يدل على عدم وجوبه.

وهو الأظهر، لقوة أدلتهم وصراحتها.

الوقفة الثانية

- ما صفة سجود التلاوة؟

     اتفق الفقهاء على أن سجود التلاوة يحصل بسجدة واحدة، والأظهر أنه إذا كان قارئ القرآن في الصلاة فإنه يكبر في أول السجود وعند الرفع منه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في كل خفض ورفع في الصلاة، وأما إذا كانت القراءة خارج الصلاة فاختلف الفقهاء، والأظهر أنه لا يكبر ولو كبر فلا بأس؛ لأن سجود التلاوة ليس بصلاة؛ ولأن التكبير ذكر يحتاج إثباته إلى دليل ولا دليل، وما ورد لا يخلو من ضعف.

واتفقوا على أنه لا تسليم من سجود التلاوة إذا كان في الصلاة، واختلفوا إذا كان خارج الصلاة والأظهر أنه لا تسليم فيه لعدم ورود ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا في حديث صحيح ولا ضعيف.

الذكر في سجود التلاوة

     ويشرع لمن سجد سجود التلاوة أن يقول: «سبحان ربي الأعلى» لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت: {سبح اسم ربك الأعلى} قال: «اجعلوها في سجودكم»، وعن عائشة قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجود القرآن: «سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته» أخرجه أبو داود والترمذي.

     وعن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني رأيت الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً وضع عني بها وزراً واجعلها لي عندك ذخراً وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود، قال ابن عباس: فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدة ثم سجد فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة» أخرجه الترمذي وابن ماجه وهو صحيح.

الوقفة الثالثة

- ما حكم سجود السامع والمستمع؟

     ما تقدم هو حكم سجود التلاوة في حق تالي القرآن، أما السامع فهو الذي يسمع الصوت دون أن ينصت إليه، والمستمع هو الذي ينصت للقارئ ويتابعه، قال ابن قدامة: «ويسن السجود للتالي والمستمع لا نعلم فيه خلافا»، واستدل بحديث ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة في غير الصلاة فيسجد ونسجد معه حتى لا يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته. متفق عليه

     أما السامع غير القاصد للسماع فلا يستحب له السجود لما أخرج عبد الرزاق في المصنف عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عُثْمَانَ، مَرَّ بِقَاصٍّ فَقَرَأَ سَجْدَةً لِيَسْجُدَ مَعَهُ عُثْمَانُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: «إِنَّمَا السُّجُودُ عَلَى مَنِ اسْتَمَعَ» ثُمَّ مَضَى وَلَمْ يَسْجُدْ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَدْ كَانَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ يَجْلِسُ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ وَيَقْرَأُ الْقَاصُّ السَّجْدَةَ فَلَا يَسْجُدُ مَعَهُ، وَيَقُولُ: إِنِّي لَمْ أَجْلِسْ لَهَا، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنَ جَلَسَ لَهَا، فَإِنْ مَرَرْتَ فَسَجَدُوا فَلَيْسَ عَلَيْكَ سُجُودٌ».

ويشترط لسجود المستمع سجود التالي فإذا لم يسجد فلا سجود على المستمع لحديث زيد قال: «قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - (والنجم) فلم يسجد فيها «لا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا زيد.

وقال عمر لقارئ: «كنت إمامنا لو سجدت لسجدنا معك»، وأخرج عبد الرزاق عَنْ سُلَيْمِ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: قَرَأْتُ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ السَّجْدَةَ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «مَا تَنْظُرُ أَنْتَ قَرَأْتَهَا، فَإِنْ سَجَدْتَ سَجَدْنَا».

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك