رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 27 يونيو، 2021 0 تعليق

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية – الأحكام المستفادة من سورة الكهف – قصة موسى -عليه السلام- والخضر

 

قال الله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} (سورة الكهف:60)، قال الشيخ ابن سعدي: «يخبر -تعالى- عن نبيه موسى -عليه السلام-، وشدة رغبته في الخير وطلب العلم، أنه قال لفتاه - أي: خادمه الذي يلازمه في حضره وسفره، وهو «يوشع بن نون {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} أي: لا أزال مسافرًا وإن طالت عليّ الشقة، ولحقتني المشقة، حتى أصل إلى مجمع البحرين، وهو المكان الذي أوحي إليه أنك ستجد فيه عبدا من عباد الله العالمين، عنده من العلم، ما ليس عندك، {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًاْ} أي: مسافة طويلة».

     وقد ذكر لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - سبب هذه القصة، فقال: «إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك. فقال موسى: يا رب، وكيف لي به؟» الحديث أخرجه البخاري، وفي هذه القصة القرآنية فوائد عديدة وأحكام كثيرة، نذكر منها ما يلي:

فضيلة العلم والرحلة في طلبه

     فمنها فضيلة العلم، والرحلة في طلبه، كما قال ابن العربي والقرطبي وغيرهما: «في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم، وذلك كان في دأب السلف الصالح»، فمن المسائل المستفادة من الآية الكريمة:

المسألة الأولى حكم الرحلة في طلب العلم الشرعي

دلت الأدلة الشرعية والآثار السلفية على مشروعية الرحلة في طلب العلم الشرعي، كما تقدم في الآية الكريمة، وأخرج البخاري عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ أنه رَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ عن مسألة متعلقة بالزواج ودعوى الرضاع.

وأخرج البخاري عن أنس أنَّ ضِمامَ بنَ ثعلبةَ - وكان سَيِّدَ قَومِه بني سَعدِ بنِ بكرٍ- جاء إلى المدينةِ لمُقابَلةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ ليَسأَلَه عن أركانِ الإسلامِ؛ ليرشد قَومِه بعْدَ رُجوعِه.

     وقال ابن حجر: «أَخْرَجَ البخاري فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عن جَابِر قال: «بَلَغَنِي عَنْ رَجُلٍ حَدِيثٌ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا ثُمَّ شَدَدْتُ رَحْلِي فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ»، وقال ابن مَسْعُودٍ: «لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ».

وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةَ قَالَ: «كُنَّا نَسْمَعُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَا نَرْضَى حَتَّى خَرَجْنَا إِلَيْهِمْ فَسَمِعْنَا مِنْهُمْ».  ورَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ رَحَلَ إِلَى فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَهُوَ بِمِصْرَ فِي حَدِيثٍ.

وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: «بَلَغَنِي حَدِيثٌ عِنْدَ عَلِيٍّ فَخِفْتُ إِنْ مَاتَ أَنْ لَا أَجِدَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ فَرَحَلْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الْعِرَاقَ».

وقال سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: «إِنْ كُنْتُ لَأَرْحَلُ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ».

وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: رَجُلٌ يَطْلُبُ الْعِلْمَ يَلْزَمُ رَجُلًا عِنْدَهُ عِلْمٌ كَثِيرٌ أَوْ يَرْحَلُ؟ قَالَ: يَرْحَلُ يَكْتُبُ عَنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فَيُشَافِهُ النَّاسَ وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ».

طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ

     ومن المعلوم أن طلب العلم الشرعي منه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية، ومنه ما هو مستحب، وحكم الرحلة في طلب العلم يختلف بحسب نوع العلم المطلوب وحال الطالب، فإن كان العلم المطلوب فرض عين ولا يمكن تحصيله إلا بالرحلة فطلبه واجب، والرحلة إليه واجبة بشروط، لقوله -تعالى-: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ} (التوبة: 122)، فَطَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ الرِّحْلَةَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وشرط ذلك خلو بلده ممن يعلمه ما يحتاج إليه، قال الخطيب البغدادي في الجامع: «الْمَقْصُودُ فِي الرِّحْلَةِ فِي الْحَدِيثِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا تَحْصِيلُ عُلُوِّ الْإِسْنَادِ وَقِدَمِ السَّمَاعِ، وَالثَّانِي لِقَاءُ الْحُفَّاظِ وَالْمُذَاكَرَةُ لَهُمْ وَالِاسْتِفَادَةُ عَنْهُمْ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرَانِ مَوْجُودَيْنِ فِي بَلَدِ الطَّالِبِ وَمَعْدُومَيْنِ فِي غَيْرِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الرِّحْلَةِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا فِي الْبَلَدِ أَوْلَى».

قالَ أَبُو مُسْهِرٍ: «يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى عِلْمِ بَلَدِهِ وَعِلْمِ عَالِمِهِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَقْتَصِرُ عَلَى عِلْمِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَمَا أَفْتَقِرُ مَعَهُ إِلَى أَحَدٍ».

متى تكون الرحلة  لطلب العلم مستحبة؟

     وتكون الرحلة مستحبة، إذا كانت لزيادة علم شرعي ليس بفرض عين وليس موجودًا في بلده، قال الخطيب البغدادي: «وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا مَوْجُودَيْنِ فِي بَلَدِ الطَّالِبِ وَفِي غَيْرِهِ إِلَّا أَنَّ مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَلَدَيْنِ يَخْتَصُّ بِهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ عِرَاقِيًّا وَفِي بَلَدِهِ عَالِي أَسَانِيدِ الْعِرَاقِيِّينَ وَحُفَّاظُ رُوَايَاتِهَا، وَالْعُلَمَاءُ بِاخْتِلَافِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ وَبِالشَّامِ مِنْ عُلُوِّ أَسَانِيدِ الشَّامِيِّينَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِأَحَادِيثِهِمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَالْمُسْتَحَبُّ لِلطَّالِبِ الرِّحْلَةُ لِجَمْعِ الْفَائِدَتَيْنِ مِنْ عُلُوِّ الْإِسْنَادَيْنِ وَعِلْمِ الطَّائِفَتَيْنِ لَكِنْ بَعْدَ تَحْصِيلِهِ حَدِيثَ بَلَدِهِ وَتَمَهُّرِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِهِ».

     قَالَ أَبُو الْفَضْلِ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ التَّمِيمِيُّ: «وَيَنْبَغِي لِطَالِبِ الْحَدِيثِ وَمَنْ عُنِيَ بِهِ أَنْ يَبْدَأَ بِكَتْبِ حَدِيثِ بَلَدِهِ وَمَعْرِفَةِ أَهْلِهِ مِنْهُمْ وَتَفَهُّمِهِ وَضَبْطِهِ حَتَّى يَعْلَمَ صَحِيحَهَا وَسَقِيمَهَا وَيَعْرِفَ أَهْلَ التَّحْدِيثِ بِهَا وَأَحْوَالِهِمْ مَعْرِفَةً تَامَّةً إِذَا كَانَ فِي بَلَدِهِ عِلْمٌ وَعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ثُمَّ يَشْتَغِلُ بَعْدُ بِحَدِيثِ الْبُلْدَانِ، وَالرِّحْلَةِ فِيهِ».

     وينبغي لمن أراد الرحلة في طلب العلم ألا يضيع من يقوت ويعول من والدين وزوجة وأولاد إن لم يكن لهم كفاية ولا من يقوم عليهم غيره، فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم   -: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» رواه أبو داود وفي لفظ: «من يعول» وحسنه الألباني.

المسألة الثانية حكم استئذان الوالدين  في الرحلة لطلب العلم

     لا شك أن طاعة الوالدين بالمعروف واجبة، وقد تكون الرحلة في طلب العلم واجبة كما تقدم، فهل يشترط إذنهما لذلك؟ ذكر العلماء لذلك تفصيلا ملخصه: إن كان في سفره خطر يخاف عليه من الهلاك فيجب أن يستأذن الوالدين؛ لأنه بمنزلة خروجه للجهاد، فقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد رجلا هاجر من اليمن لوالديه وقال له: أذنا لك؟ قال: لا، قال: «ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما».

وإن لم يكن في سفره خطر يخاف عليه من الهلاك، وخيف على والديه الضيعة؛ بأن كانا معسرين ونفقتهما عليه، وماله لا يفي بنفقتهما ونفقة سفره فإنه لا يخرج إلا بإذنهما.

وإن كانا موسرين فله أن يخرج بغير إذنهما إذا كان لطلب علم شرعي فرض عليه ولم يكن في بلده من يفيده، بشرط أن يكون طالب العلم أهلا لذلك ويرجى انتفاعه بسفره.

     قَالَ الخطيب: «وَالطَّلَبُ الْمَفْرُوضُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِنَّمَا هُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَسَعُ جَهْلُهُ فَتَجُوزُ الرِّحْلَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْأَبَوَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِ الطَّالِبِ مَنْ يُعَرِّفُهُ وَاجِبَاتِ الْأَحْكَامِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ قَدْ عَرَفَ عِلْمَ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ فَتُكْرَهُ لَهُ الرِّحْلَةُ إِلَّا بِإِذْنِ أَبَوَيْهِ».

قَالَ الخطيب: «وَإِذَا مَنَعَ الطَّالِبَ أَبَوَاهُ عَنْ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ الْمُفْتَرَضِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُدَارَاتُهُمَا وَالرِّفْقُ بِهِمَا حَتَّى تَطِيبَ لَهُ أَنْفُسُهُمَا وَيَسْهُلَ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمَا.

سئل رجل الإمام أحمد فقال: «إِنِّي أَطْلُبُ الْحَدِيثَ وَإِنَّ أُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ تُرِيدُ مِنِّي أَنْ أَشْتَغِلَ فِي التِّجَارَةِ» فَقَالَ: «دَارِهَا وَأَرْضِهَا وَلَا تَدَعِ الطَّلَبَ».

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك