رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 12 مايو، 2020 0 تعليق

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية – الأحكام الفقهية في كفالة مريم -عليها السلام

 

قال -تعالى-:{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (سورة آل عمران: 44)، قال الشيخ ابن سعدي: «ولما أخبر الله نبيه بما أخبر به عن مريم، وكيف تنقلت بها الأحوال التي قيضها الله لها، وكان هذا من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا بالوحي. قال: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي: عندهم {ِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} لما ذهبت بها أمها إلى من لهم الأمر على بيت المقدس، فتشاحوا وتخاصموا أيهم يكفل مريم؟ واقترعوا عليها بأن ألقوا أقلامهم في النهر، فأيهم لم يجر قلمه مع الماء فله كفالتها، فوقع ذلك لزكريا نبيهم وأفضلهم، فلما أَخْبَرتَهُم يا محمد بهذه الأخبار التي لا علم لك ولا لقومك بها دل على أنك صادق, وأنك رسول الله حقا؛ فوجب عليهم الانقياد لك وامتثال أوامرك».

من الأحكام الفقهية التي تؤخذ من الآية الكريمة مشروعية القرعة لتمييز الحقوق إذا تساوت جهات الاستحقاق كما سيأتي:

المسألة الأولى: تعريف القرعة

     القرعة في اللغة بضم القاف: السهم والنصيب، وهي اسم مصدر بمعنى الاقتراع, وهو الاختيار بإلقاء السهام ونحو ذلك، ولا يبعد التعريف الاصطلاحي عن التعريف اللغوي؛ فهي استهام يتعين به نصيب الإنسان، قال البخاري في صحيحه في كتاب الأذان: (باب الاستهام في الأذان) قال ابن حجر نقلا عن الخطابي وغيره: «قيل له: الاستهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في الشيء، فمن خرج سهمه غلب».

المسألة الثانية: مشروعية القرعة

     دلت النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة المطهرة والآثار على أن القرعة مشروعة، فمن الكتاب الكريم قوله -تعالى-: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}، قال القرطبي: «استدل بعض علمائنا بهذه الآية على إثبات القرعة، وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة، وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم وترتفع الظنة عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة»، وقال -سبحانه-:{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (سورة الصافات:139-141).

     قال ابن كثير: «{فساهم} أي: قارع؛ {فكان من المدحضين} أي: المغلوبين، وذلك أن السفينة تلاعبت بها الأمواج من كل جانب، وأشرفوا على الغرق، فساهموا على من تقع عليه القرعة يلقى في البحر لتخف بهم السفينة؛ فوقعت القرعة على نبي الله يونس -عليه الصلاة والسلام- ثلاث مرات، وهم يضنون به أن يلقى من بينهم، فتجرد من ثيابه ليلقي نفسه وهم يأبون عليه ذلك»، قال ابن القيم: «فهذان نبيان كريمان استعملا القرعة، وقد احتج الأئمة الأربعة بشرع من قبلنا إن صح ذلك عنهم».

الاستهام على الصف الأول

ومن السنة المطهرة ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا» .

     قال النووي: «الاستهام: الِاقْتِرَاعُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا فَضِيلَةَ الْأَذَانِ وَقَدْرَهَا وَعَظِيمَ جَزَائِهِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا طَرِيقًا يُحَصِّلُونَهُ بِهِ لِضِيقِ الْوَقْتِ عَنْ أَذَانٍ بَعْدَ أَذَانٍ أَوْ لِكَوْنِهِ لَا يُؤَذِّنُ لِلْمَسْجِدِ إِلَّا وَاحِدٌ لَاقْتَرَعُوا فِي تَحْصِيلِهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ مِنَ الْفَضِيلَةِ نَحْوَ مَا سَبَقَ وَجَاءُوا إِلَيْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَضَاقَ عَنْهُمْ ثُمَّ لَمْ يَسْمَحْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِهِ لَاقْتَرَعُوا عَلَيْهِ. وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْقُرْعَةِ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي يُزْدَحَمُ عَلَيْهَا وَيُتَنَازَعُ فِيهَا».

القرعة بين النساء

     وفي الصحيحين عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِه ِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ»، قال النووي: «هَذَا دَلِيلٌ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ فِي الْعَمَلِ بِالْقُرْعَةِ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَفِي الْعِتْقِ وَالْوَصَايَا وَالْقِسْمَةِ ونحو ذلك، وَقَدْ جَاءَتْ فِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحِ مَشْهُورَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: «عَمِلَ بِهَا ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ- أَجْمَعِينَ يُونُسُ وَزَكَرِيَّا وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -». قال ابن الْمُنْذِرِ: «اسْتِعْمَالُهَا كَالْإِجْمَاعِ»، قَالَ: «وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ رَدَّهَا».

السهم في اليمين

     وأخرج البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ، قال ابن حجر نقلا عن الخطابي وغيره: «الْمَعْنَى إِذَا تَوَجَّهَتِ الْيَمِينُ عَلَى اثْنَيْنِ وَأَرَادَا الْحَلِفَ سَوَاءٌ كَانَا كَارِهَيْنِ لِذَلِكَ بِقَلْبِهِمَا وَهُوَ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ، أَوْ مُخْتَارَيْنِ لِذَلِكَ بِقَلْبِهِمَا وَهُوَ مَعْنَى الِاسْتِحْبَابِ, وَتَنَازَعَا أَيُّهُمَا يَبْدَأُ؟ فَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِالتَّشَهِّي بَلْ بِالْقُرْعَةِ».  قال البخاري: «ويذكر أن قوما اختلفوا في الأذان فأقرع بينهم سعد».

      قال ابن حجر: «خْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُبْرُمَةَ قَالَ: تَشَاحَّ النَّاسُ فِي الْأَذَانِ بِالْقَادِسِيَّةِ؛ فَاخْتَصَمُوا إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ وَقَدْ وَصَلَهُ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ فِي الْفُتُوحِ وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُبْرُمَةَ عَنْ شَقِيقٍ وَهُوَ أَبُو وَائِلٍ, قَالَ: افْتَتَحْنَا الْقَادِسِيَّةَ صَدْرَ النَّهَارِ؛ فَتَرَاجَعْنَا وَقَدْ أُصِيبَ الْمُؤَذِّنُ, فَذَكَرَهُ وَزَادَ فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ فَأَذَّنَ».

المسألة الثالثة: شرط صحة القرعة

     يشترط لاستعمال القرعة أن تكون الحقوق والمصالح متساوية الأطراف، قال الشافعي: «فلا تكون القرعة إلا بين قوم مستويين في الحجة»، وقال القرافي: «اعلم أنه متى تعينت المصلحة أو الحق في جهة فلا يجوز الإقراع بينه وبين غيره؛ لأن في القرعة ضياع ذلك الحق المتعين أو المصلحة المعينة، ومتى تساوت الحقوق أو المصالح؛ فهذا موضع القرعة عند التنازع».

المسألة الرابعة: مواضع الحكم بالقرعة

     ذكر الفقهاء أمثلة لمواضع استعمال القرعة, فمن ذلك: «تَمْيِيزِ الْمُسْتَحِقِّ إذَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ ابْتِدَاءً لِمُبْهَمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ عِنْدَ تُسَاوِي الْمُسْتَحَقِّينَ, كَاجْتِمَاعِ الْأَوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ وَالْوَرَثَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، وَغُسْلِ الْمَيِّتِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَاضِنَاتِ إذَا كُنَّ فِي دَرَجَةٍ واحدة، وَكَذَا فِي ابْتِدَاءِ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَقِّ؛ فَوَجَبَتْ الْقُرْعَةُ؛ لِأَنَّهَا مُرَجَّحَةٌ.

وأيضا فِي حُقُوقِ الِاخْتِصَاصَاتِ: كَالتَّزَاحُمِ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَفِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَنِيلِ الْمَعْدِنِ وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ الَّتِي يُبَاعُ فِيهَا، وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْأَبْضَاعِ وعقد النكاح، وَلَا فِي تَعْيِينِ الْوَاجِبِ الْمُبْهَمِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا ابْتِدَاءً، وَلَا فِي لِحَاقِ النَّسَبِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ.

     وَالْقُرْعَةُ تَدْخُلُ فِي تَمْيِيزِ الْأَمْلَاكِ, كالإقراع بين الشركاء عند تعديل السهام في القسمة, كما جاء في حديث أم سلمة قالت: «جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة...» الحديث وفي آخره -قال  صلى الله عليه وسلم -: «إذ قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك