رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 7 يوليو، 2020 0 تعليق

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية – الأحكام الفقهية من ميثاق الله لبني إسرائيل


لا نزال مع المسائل الفقهية المستفادة من قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}.

فقد نقل الطبري عن مجاهد والسدي وغيرهما، أن من مقاصد بعثة النقباء المذكور في الآية الكريمة هو التجسس على الأعداء؛ فقال: «وإنما كان الله -عز ذكره- أمر موسى نبيّه - صلى الله عليه وسلم - ببعثة النقباء الاثني عشر من قومه (بني إسرائيل) إلى أرض الجبابرة بالشأم، ليتحسَّسوا لموسى أخبارَهم؛ إذْ أراد هلاكهم، وأن يورِّث أرضَهم وديارَهم موسى وقومَه، وأن يجعلها مساكن لبني إسرائيل بعد ما أنجاهم من فرعون وقومه، وأخرجهم من أرض مصر، فبعث مُوسى الذين أمَره الله ببعثهم إليها من النقباء».

 

وذكر القرطبي أن من المسائل الفقهية المستفادة من الآية الكريمة، أن فيها دليلا على اتخاذ الجاسوس.

المسألة الثالثة حكم التجسس

أولاً: تعريف التجسس:

- التجسس في اللغة: مصدر الفعل تجسس، وهو تتبع الأخبار، ومادة (جسس) تدل على تعرف الشيء بمس لطيف، قال الراغب: «أصل الجس: مسّ العِـرق وتعرف نبضه للحكم به على الصحة والسقم، وهو أخص من الحَسّ تعرف ما يدركه الحس» أهـ ومنه اشتق الجاسوس؛ لأنه يتخبر ما يريد بخفاء ولطف.

 

التجسس في الاصطلاح:

قال ابن الأثير: هو التفتيش عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشر.

وقال الكفوي: التجسس هو السؤال عن العورات من غيره.

ثانياً: حكم التجسس:

دلت النصوص الشرعية على أن التجسس نوعان؛ من حيث الجملة:

النوع الأول: التجسس المشروع:

1- التجسس على الحربيين لمعرفة عددهم وعُددهم وغير ذلك مشروع، قال ابن حجر في حديث صلح الحديبية: «وفيه استحباب تقديم الطلائع والعيون بين يدي الجيش، والأخذ بالحزم في أمر العدو لئلا ينالوا غرة بالمسلمين».

وقد استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - التجسس على الكفار مرات عديدة، وممن بعثه للتجسس حذيفة ونعيم بن مسعود وعبدالله بن أنيس وغيرهم.

2- تجسس ولي الأمر على المسلمين لدرء مفاسد تضرر بالأفراد أو المجتمع:

الأصل أن التجسس على المسلمين محرم لقوله تعالى: {ولا تجسسوا}، ويتأكد هذا في حق ولي الأمر لما أخرج أبو داود عن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم «قال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله نفعه الله بها.

قال الشراح: «معنى الحديث: أي إذا بحثت عن معائبهم وجاهرتهم بذلك، فإنه يؤدي إلى قلة حيائهم عنك فيجترئون على ارتكاب أمثالها مجاهرة».

وأخرج أيضا عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم».

قال الشراح: «أي طلب أن يعاملهم بالتهمة وجاهرهم بسوء الظن فيهم، أداهم ذلك إلى ارتكاب ما ظن فيهم ففسدوا بذلك، مقصود الحديث: حث الإمام على التغافل وعدم تتبع العورات».

وَعَنْ زَيْد بْن وَهْب قَالَ: أُتِيَ اِبْن مَسْعُود فَقِيلَ: هَذَا فُلَان تَقْطُر لِحْيَته خَمْرًا فَقَالَ عَبْد اللَّه: «إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنْ التَّجَسُّس، وَلَكِنْ إِنْ يَظْهَر لَنَا شَيْء نَأْخُذ بِهِ».

يستثنى من ذلك ما إذا كان في ترك التجسس انتهاك حرمة يفوت استدراكها، مثل أن يخبره الثقة أن رجلا خلا برجل ليقتله أو امرأة ليزني بها، فيجوز أن يتجسس حذرا من فوات ما لا يستدرك.

 

النوع الثاني: التجسس الممنوع:

دلت النصوص الشرعية على أن التجسس على المسلمين حرام منهي عنه لقوله تعالى: {ولا تجسسوا}، قال ابن سعدي: «أي: لا تفتشوا عن عورات المسلمين ولا تتبعوها، واتركوا المسلم على حاله، واستعملوا التغافل عن أحواله التي إذا فتشت ظهر منها ما لا ينبغي».

قال القرطبي: «وَمَعْنَى الْآيَة: خُذُوا مَا ظَهَرَ وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَات الْمُسْلِمِينَ أَيْ: لا يَبْحَث أَحَدكُمْ عَنْ عَيْب أَخِيهِ حَتَّى يَطَّلِع عَلَيْهِ بَعْد أَنْ سَتَرَهُ اللَّه» أهـ.

وثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنّ! فَإِنَّ الظَّنّ أَكْذَب الْحَدِيث، وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَحَاسَدُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَاد اللَّه إِخْوَانًا».

وَعَنْ أَبِي بَرْزَة الْأَسْلَمِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: «يَا مَعْشَر مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُل الْإِيمَان قَلْبه، لا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتهمْ؛ فَإِنَّ مَنْ اِتَّبَعَ عَوْرَاتهمْ يَتَّبِع اللَّه عَوْرَته، وَمَنْ يَتَّبِع اللَّه عَوْرَته، يَفْضَحهُ فِي بَيْته».

قال الشراح: أي يكشف عيوبه في الآخرة، وقيل: معناه يجازيه بسوء صنيعه.

 

     وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف: حَرَسْت لَيْلَة مَعَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِالْمَدِينَةِ؛ إِذْ تَبَيَّنَ لَنَا سِرَاج فِي بَيْت بَابه مُجَافٍ عَلَى قَوْم لَهُمْ أَصْوَات مُرْتَفِعَة وَلَغَط، فَقَالَ عُمَر: هَذَا بَيْت رَبِيعَة بْن أُمَيَّة بْن خَلَف، وَهُمْ الْآن شُرَّب فَمَا تَرَى؟ قُلْت: أَرَى أَنَّا قَدْ أَتَيْنَا مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ، قَالَ اللَّه -تَعَالَى-: {وَلَا تَجَسَّسُوا} وَقَدْ تَجَسَّسْنَا. فَانْصَرَفَ عُمَر.

ودلت السنة على عقوبة التجسس على البيوت؛ فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حل لهم أن يفقؤوا عينه».

قال النووي: «محمول على ما إذا نظر في بيت الرجل فرماه بحصاة ففقأ عينه، وهل يجوز رميه قبل إنذاره ؟ فيه وجهان لأصحابنا: أصحهما: جوازه لظاهر الحديث، والله أعلم «أهـ

وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد أن رجلا اطلع في جحر في بيت رسول الله، ومع رسول الله مدرى وهي حديدة يسوى بها الشعر، يحك بها رأسه، فلما رآه رسول الله قال: «لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك» وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر».

وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح» أخرجه البخاري.

قال ابن حجر: «استدل به على جواز رمي من يتجسس ولو لم يندفع بالشيء الخفيف جاز بالثقيل، وأنه إن أصيبت نفسه أو بعضه فهو هدر».

ولاشك أن إقامة العقوبات ليس من شأن الأفراد بل هو من واجبات ولي الأمر ومن حقوقه التي لا تفتات عليه، درءا للفوضى وحسما لمادة الفساد والتهارج في المجتمعات، فمن تضرر من تجسس الآخرين عليه رفع أمره لولي الأمر ليحمي خصوصيته ويدفع الضرر عنه.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك