رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 31 أغسطس، 2020 0 تعليق

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية – الأحكام الفقهية المستفادة من حوار أهل النار مع أهل الجنة


قال -تعالى-: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} (سورة الأعراف:50). قال الطبري: «هذا خبر من الله -تعالى ذكره- عن استغاثة أهل النار بأهل الجنة، عند نـزول عظيم البلاء بهم من شدة العطش والجوع، عقوبةً من الله لهم على ما سلف منهم في الدنيا من ترك طاعة الله، وعدم أداء ما كان فرض عليهم في أموالهم تجاه المساكين من الزكاة والصدقة». وذكر بسنده عن ابن عباس قال: «ينادي الرجلُ أخاه أو أباه، فيقول: قد احترقت، أفض عليَّ من الماء، فيقال لهم: أجيبوهم. فيقولون: «إن الله حرمهما على الكافرين».

ويستفاد من هذه الآية الكريمة مسائل منها:

المسألة الأولى:

أفضل الصدقة سقي الماء:

من عجيب الاستدلال، ودقة المأخذ ما استنبطه ابن عباس من هذه الآية الكريمة؛ حيث سئل: أي الصدقة أفضل؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الصدقة الماء»، ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}؟

ومن هنا ذكر القرطبي أن هذه الآية: «دليل على أن سقي الماء من أفضل الأعمال».

     وقد جاءت السنة المطهرة بتأكيد هذا المعنى، فقد أخرج أحمد وأصحاب السنن أن سعدا قال: يا رسول الله، إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟ قال: «نعم»، قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: «سَقْيُ الْمَاء». حسنه الألباني. وفي رواية فحفر بئرا فقال: هذه لأم سعد». أي: أن هذه البئر صدقة لها.

قال في عون المعبود: «إنما كان الماء أفضل لأنه أعم نفعا في الأمور الدينية والدنيوية، ولا سيما في تلك البلاد الحارة، ولذلك منّ الله -تعالى- بقوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}».

     قال القرطبي: «فدل على أن سقي الماء من أعظم القربات عند الله -تعالى-، وقد قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء. وقد غفر الله ذنوب الذي سقى الكلب، فكيف بمن سقى رجلا مؤمنا موحدا وأحياه؟! روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينا رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش؛ فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج، فإذا كلب يأكل الثرى من العطش؛ فقال: لقد بلغ هذا الكلب مثل الذي بلغ بي؛ فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب؛ فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجرا؟ قال: «في كل ذات كبد رطبة أجر».

المسألة الثانية: صاحب الماء

أحق بمائه:

     قال القرطبي: «وقد استدل بهذه الآية من قال: إن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه، وأن له منعه ممن أراده؛ لأن معنى قول أهل الجنة: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} لا حق لكم فيها، وقد بوب البخاري - رحمه الله - على هذا المعنى: (باب من رأى أن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه)، وأدخل في الباب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لأذودن رجالا عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض». ومعنى لأذودن:لأطردن.

قال ابن حجر: «ومناسبته للترجمة من ذكره - صلى الله عليه وسلم - أن صاحب الحوض يطرد إبل غيره عن حوضه ولم ينكر ذلك؛ فيدل على الجواز».

     وذكر البخاري حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت عينا معينا. وأقبل جرهم فقالوا: أتأذنين أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولا حق لكم في الماء. قالوا: نعم».

قال ابن حجر: ومناسبته للترجمة من جهة قولها: «ولا حق لكم في الماء» وقرر النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، قال الخطابي: «فيه أن من أنبط ماء في فلاة من الأرض ملكه، ولا يشاركه فيه غيره إلا برضاه، إلا أنه لا يمنع فضله إلا استغنى عنه».

     ومن هنا اتفق الفقهاء على أن الماء المحرز في آنية مملوكة لشخص معين كالصهاريج والأواني ونحوها مملوك لمن أحرزه؛ حيث نقله من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة بالحيازة، فله أن يتصرف فيه بالاستعمال والاستغلال، ولا يجوز لأحد أن ينتفع بهذا الماء المملوك إلا بإذن صاحبه، فإن أخذه شخص بغير إذن صاحبه فعليه ضمان الضرر والتلف إذا وقع.

     وقد اتفق الفقهاء على استحباب بذل الفاضل من الماء لمن احتاج إليه وسأله لعموم الأدلة على ذلك، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ» متفق عليه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من منع فضل مائه أو فضل كلئه منعه الله فضله يوم القيامة» أخرجه أحمد، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل» الحديث أخرجه البخاري.

ويبين ابن حجر أن وجه الدلالة في هذه الأحاديث من جهة أن المعاقبة وقعت على منعه الفضل، فدل على أنه أحق بالأصل.

وجوب بذل الماء

وقد بحث الفقهاء مسألة (وجوب بذل الماء على مالكه) وفرقوا بين صورتين:

- الصورة الأولى: ألا يزيد الماء عن حاجة مالكه؛ ففي هذه الحالة اتفق الفقهاء أنه لا يجب عليه أن يبذله لمن طلبه، قال ابن بطال: «لا خلاف بين العلماء أن صاحب الماء أحق بمائه حتى يروي».

- الصورة الثانية: إذا كان الماء زائدا عن حاجة مالكه: فقد اختلف الفقهاء في هذه الصورة، والذي يظهر هو أن الماء المحرز ملك لمن أحرزه، فلا يجوز لأحد أن ينتفع به إلا بإذن مالكه كسائر الأموال الخاصة، فلا يجب على مالكه بذله لأحد بغير عوض، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»، فيجوز لصاحبه أن يمنعه لمن سأله، وأن يبيعه بثمن معقول، وتحمل أحاديث النهي المتقدمة على من منع الماء المضطر الذي لا يجد ماء غيره، فهنا حالة اضطرار تستثنى من الأصل؛ فيجب بذل الماء له بغير عوض؛ لأن في ذلك إنقاذ النفس التي كرمها الله -تعالى-، وقد قال -سبحانه-: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(سورةالمائدة:32)، قال ابن حجر: «وأما الماء المحرز في الإناء فلا يجب بذل فضله لغير المضطر على الصحيح، ومحل النهي ما إذا لم يجد المأمور بالبذل له ماء غيره».

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك