رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 16 ديسمبر، 2020 0 تعليق

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية – الأحكام الفقهية من قصة موسى -عليه السلام- مع بني إسرائيل


لا نزال مع المسائل الفقهية المستفادة من قوله -تعالى-: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (سورة الأعراف: 150)، ومعنى الآية كما قال الشيخ ابن سعدي: «أي: فلا تظن بي تقصيرا فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ بنهرك لي، ومسك إياي بسوء، فإن الأعداء حريصون على أن يجدوا عليَّ عثرة، أو يطلعوا لي على زلة، وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فتعاملني معاملتهم».

     قال ابن عاشور: «وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} تَفْرِيعٌ عَلَى تَبَيُّنِ عُذْرِهِ فِي إِقْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَطَلَبَ مِنْ أَخِيهِ الْكَفَّ عَنْ عِقَابِهِ الَّذِي يَشْمَتُ بِهِ الْأَعْدَاءُ لِأَجْلِهِ، وَيَجْعَلُهُ مَعَ عِدَادِ الظَّالِمِينَ فَطَلَبُ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ طَلَبِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْعِقَابِ»، فهذا الجزء من الآية الكريمة يدل على منع الشماتة بالمسلم ابتداء وتسببا؛ بأن يفعل ما يلحق الشماتة بالمسلم.

وقبل بيان حكم الشماتة لابد من تعريفها:

قال القرطبي: «الشماتة: هي السرور بما يصيب أخاك من المصائب في الدين والدنيا».

قال ابن عاشور: «وَالشَّمَاتَةُ: سُرُورُ النَّفْسِ بِمَا يُصِيبُ غَيْرَهَا مِنَ الْأَضْرَارِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ».

حكم الشماتة

     قال القرطبي: «وهي محرمة منهي عنها»، وقد دل على هذا الحكم أدلة صريحة، وأخرى تضمنت النهي عن الشماتة دلالة، ومن ذلك النهي عن إيذاء المؤمنين، والنهي عن السخرية منهم، والتحذير من مشابهة المنافقين في فرحهم بمصائب المسلمين وما يلحقهم من محن وابتلاءات.

     فمن الأدلة على حرمة الشماتة قول الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا{(سورة الأحزاب: 58)، قال القرطبي: «أذية المؤمنين والمؤمنات بالأفعال والأقوال القبيحة، كالبهتان والتكذيب الفاحش المختلق. وقد قيل: إن من الأذية تعييره بحسب مذموم، أو حرفة مذمومة، أو شيء يثقل عليه إذا سمعه؛ لأن أذاه في الجملة حرام «.باختصار، ولا شك أن إظهار الفرح بما يصيب المسلم من المكروه والمصائب من الإيذاء والإساءة المحرمة التي تندرج تحت دلالة الآية الكريمة.

وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} (سورة الحجرات: 11).

عبارات المفسرين في بيان السخرية

وقد تنوعت عبارات المفسرين في بيان السخرية المنهي عنها في الآية الكريمة، ومن ذلك قول ابن زيد أن السخرية المحرمة التي تتضمن معنى الشماتة فقال: «لا يسخر من ستر الله عليه ذنوبه ممن كشفه الله، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة».

     قال الطبري: «والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله عمّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية، فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك»، وهذا كما لا يخفى يتناول الشماتة بالمسلم والفرح بمصابه وذنبه.

صفات المنافقين

     وقال -سبحانه- في شأن المنافقين وعداوتهم للمؤمنين: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (سورة آل عمران: 120)، قال القرطبي: «والمعنى في الآية: أن من كانت من صفته شدة العداوة والحقد والفرح بنزول الشدائد على المؤمنين، لم يكن أهلا لأن يتخذ بطانة».

قال قتادة: «فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورًا على عدوهم، غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فُرقة واختلافًا، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين، سرَّهم ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به».

والله -تعالى- يحكي أخلاق المنافقين وأحوالهم للعلم بها والحذر من الاتصاف بها، فالشماتة بالمسلم كما دلت هذه الآية من أخلاق المنافقين والمسلم يربأ بنفسه عنها.

النهي عن الشماتة

     ومن الأدلة الصريحة في هذا الباب حديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تظهر الشّماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك» أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، وقال محقق جامع الأصول: «حديث حسن بشواهده». وذكره المنذري في الترغيب ووافق الترمذي في تحسينه.

     بيّـن في تحفة الأحوذي أن الحديث من باب العقوبة لمن تعالى على أخيه المسلم فقال: «والمعنى يرحمه رغما لأنفك (ويبتليك) حيث زكيت نفسك ورفعت منزلتك عليه، ونحوه قوله - صلى الله عليه وسلم - في قول من قال لصاحبه» والله لا يغفر الله لك أبدا: «فقال الله -تعالى- للمذنب: ادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: تستطيع أن تحظر عن عبدي رحمتي «الحديث».

الشماتة أمر سيء

     ومما يدل أن الشماتة أمر سيء تعوذ النبي - صلى الله عليه وسلم - منها فقد روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ من سوء القضاء، ومن درك الشقاء، ومن شماتة الأعداء، ومن جهد البلاء، وفي رواية للبخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَعَوَّذُوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء»، فقوله: «وشماتة الأعداء»: أي: نعوذ بك من أن تلحقنا مصيبة في ديننا أو دنيانا يفرح بها أعداؤنا، قال ابن بطال مبينا أن الشماتة مؤذية: «وشماتة الأعداء ما ينكأ القلب ويبلغ من النفس أشد مبلغ».

مفهوم الأعداء

     قال الشيخ ابن عثيمين: «الأعداء جمع عدو، وقد ذكر الفقهاء ضابطا للعدو فقالوا: من سره ما ساء في شخص، أو غمه فرحه فهو عدوه، كل إنسان يسره ما ساءك، أو يغمه فرحك فهو عدو لك، وشماتة الأعداء: أن الأعداء يفرحون بما أصابك، والعدو لا شك أنه يفرح في كل ما أصاب الإنسان من بلاء، ويحزن في كل ما أصابه من خير، فأنت تستعيذ بالله -عز وجل- من شماتة الأعداء».

قال ابن بطال: «وإنما تعوذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك تعليما لأمته فإن الله -تعالى- كان آمنه من جميع ذلك وبذلك جزم عياض».

     وجاء في حديث أبي جري جابر بن سليم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصاه فقال: «وإن امرؤ شتمك وعيّـرك بما يعلم فيك فلا تعيّره بما تعلم فيه، فإنما وبال ذلك عليه». رواه أبو داود والترمذي، وقال في عون المعبود: «(فَلَا تُعَيِّرْهُ) مِنَ التَّعْيِيرِ وَهُوَ التَّوْبِيخُ وَالتَّعْيِيبُ عَلَى ذَنْبٍ سَبَقَ لِأَحَدٍ مِنْ قَدِيمِ الْعَهْدِ سَوَاءً عَلِمَ تَوْبَتَهُ مِنْهُ أَمْ لَا». وهذا مما يؤيد الحكم المذكور وهو حرمة الشماتة بالمسلم.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك