رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 24 أكتوبر، 2022 0 تعليق

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية – الأحكام المستفادة من قصة داود وسليمان -عليهما السلام – الحكم بال

 

قال -تعالى-: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب} (سورة ص:26)، تقدم في الآيات السابقة أن الله -تعالى- اختبر داود -عليه السلام- في تلك القضية ليتنبه لما صدر منه، وأنه -عليه السلام- خَرَّ ساجدا وَأَنَابَ للّه -تعالى- بالتوبة النصوح والعبادة، ثم أرشده -سبحانه- والمكلفين من بعده إلى أساس العدل وهو الحكم بالحق واجتناب الهوى وحظوظ النفس.

     قال ابن كثير:» هذه وصية من الله -عز وجل- لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده -تبارك وتعالى-، ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيله، وقد توعد الله -تعالى- من ضل عن سبيله، وتناسى يوم الحساب، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد».

الأمور التي يتحقق بها العدل

وبيّن الشيخ ابن سعدي أن العدل يتحقق بأمور منها: العلم بالواجب، والعلم بالواقع، والقدرة على تنفيذ الحق.

     وقد يطرأ على ذهن شخص شبهة وهي: هل يمكن أن يحكم نبي بالهوى؟ والجواب كما قال الشنقيطي: «ومعلوم أن نبي الله داود لا يحكم بغير الحق، ولا يتبع الهوى فيضله عن سبيل الله، ولكن الله -تعالى- يأمر أنبياءه -عليهم الصلاة والسلام- وينهاهم ليشرع لأممهم».

     وقال -أيضا مؤكدًا هذه القاعدة-: «من أصرح الأدلة القرآنية الدالة على أن النبي يخاطب بخطاب والمراد بذلك الخطاب غيره يقينا قوله -تعالى-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} الآية (سورة الإسراء:23) ومن المعلوم أن أباه - صلى الله عليه وسلم - توفي قبل ولادته، وأن أمه ماتت وهو صغير. فتبين أن أمره -تعالى- لنبيه ونهيه له إنما يراد به التشريع على لسانه لأمته».

شروط تولي القضاء

     وأبرز من يحكم بين الناس هم القضاة؛ لذا يشترط في القاضي شروط تضمن جدارته لهذا المنصب الخطير؛ فيشترط: الإسلام، والبلوغ والعقل، والحرية، والعدالة، والذكورة، والعلم، وسلامة الحواس؛ وذلك ليحصل له معرفة الحق الحكم به مع القدرة على تنفيذه؛ ولهذا قال عمر: «فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له».

     وقد أثار القرطبي مسألة فقهية أخذها من الآية الكريمة تتعلق بعلم القاضي فقال:» هذه الآية تمنع من حكم الحاكم بعلمه؛ لأن الحكام لو مكنوا أن يحكموا بعلمهم لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليه ويهلك عدوه إلا ادعى علمه فيما حكم به».

نوعان من العلم

تقدم أنه يشترط في القاضي نوعان من العلم: العلم بالأحكام الشرعية، والعلم بحقيقة الواقعة، وهو المراد هنا، وهو نوعان:

الأول: القاضي يحكم بموجب علمه

     إذا علم القاضي بحقيقة الواقعة في مجلس القضاء من خلال الحجج القضائية كالبينات التي يقيمها المدعي، أو إقرار المدعى عليه، أو حلفه اليمين مع إنكاره، ونحو ذلك فإن القاضي يحكم بموجب علمه؛ لأن هذا علم مستند إلى أدلة وحجج معتبرة ليست من عنده، ولا يتهم في حكمه إذا استند إليها.

الثاني: علم القاضي بغير حجج قضائية

     إذا علم القاضي بحقيقة الواقعة بغير الحجج القضائية، كما لو سمع شخصًا يطلق امرأته ثلاثا خارج مجلس القضاء، أو رأى القاضي شخصًا أتلف مال شخص خارج القضاء ثم رفعت الدعوى إليه فهل يحكم بالطلاق إذا طلبت الزوجة ذلك؟ ويحكم بالضمان على المتلف؟ استنادا إلى علمه فقط دون الحجج القضائية، هنا اختلف الفقهاء:

المذهب الأول: يقضي القاضي بعلمه

وهو مذهب الظاهرية والصاحبين والشافعية في الأظهر ورواية عن أحمد، ومما استدلوا به:

1- قوله -تعالى-: {كونوا قوامين بالقسط}(سورة النساء:135)، وليس من القسط أن يترك الظالم على ظلمه لا يغيره وهو عالم بظلمه، وأن يعلم طلاق المرأة ويترك مطلقها يعاشرها.

2- قوله - صلى الله عليه وسلم - لهند زوجة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» متفق عليه، فقضى لها بناء على علمه بشح أبي سفيان دون أن يطلب بينة أو إقراره بذلك.

وأجيب عن هذا الاستدلال:

1- بأن الآية في حق الشهود، فهم مأمورون بالقسط في الشهادة، ولو قلنا بالعموم فهي مخصوصة في حق القاضي؛ لأن الأدلة تلزمه القضاء بالحجج.

2- أما قصة هند كانت إفتاء وليست قضاء؛ لأن أبا سفيان كان حاضرا في البلد ولم يستدعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لسماع أقواله ومعلوم أنه لا يجوز الحكم على الغائب في البلد حتى يعلن.

المذهب الثاني: لا يقضي بعلمه

وهو مذهب المالكية والحنابلة والمتأخرين من الحنفية وقول للشافعية، ومما استدلوا به:

1- قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ» الحديث أخرجه البخاري، فدل على أنه يقضي بما يسمع لا بما يعلم.

2- في قصة اختصام الأشعث بن قيس مع رجل في بئر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «شاهداك أو يمينه» متفق عليه، وفي رواية مسلم:» ليس لك إلا ذاك»، فحصر الحجة في البينة واليمين دون علم الحاكم.

3- استدلوا بآثار عن الصحابة منها قول أبي بكر: «لو رأيت رجلا على حد من حدود الله لم أحده حتى يكون معي غيري» أخرجه البيهقي. أي: لم أعاقبه بعقوبة الحد حتى تقوم البينة عندي.

     وتداعى رجلان عند عمر فقال له أحدهما: أنت شاهدي. فقال عمر: «إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد»، وهو القول الأظهر سدا للذريعة أمام قضاة السوء من الحكم على البريء بغير حجة، ونقل الشوكاني عن الكرابيسي أنه قال: «لا يقضي القاضي بما علم لوجود التهمة؛ إذ لا يؤمن على التقي أن تتطرق إليه التهمة» وقال: «ويلزم من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه مطلقا أنه لو عمد إلى رجل مستور لم يعهد منه فجور قط أن يرجمه ويدعي أنه رآه يزني، أو يفرق بينه وبين زوجته ويزعم أنه سمعه يطلقها، فإن هذا الباب لو فتح لوجد كل قاض السبيل إلى قتل عدوه وتفسيقه والتفريق بينه وبين من يحب، ومن ثم قال الشافعي: لولا قضاة السوء لقلت إن للحاكم أن يحكم بعلمه».

     قال ابن القيم: «ولقد كان سيد الحكام -صلوات الله وسلامه عليه- يعلم من المنافقين ما يبيح دماءهم وأموالهم، ويتحقق من ذلك، ولا يحكم فيهم بعلمه مع براءته عند الله وملائكته وعباده المؤمنين من كل تهمة».

      وقال ابن عثيمين:» لو فتح الحكم للقاضي بعلمه لفسدت أحوال الناس؛ لأنه ليس كل إنسان ثقة، فسدّ الباب هو الأولى، فإذا تحاكم إليّ خصمان وأنا أعلم أن الحق مع المدعي علم اليقين فماذا أعمل؟ أحول القضية إلى قاض آخر وأكون شاهدا».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك