رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: م. محمد عبدالعظيم 8 سبتمبر، 2014 0 تعليق

اكتشاف الذات وأثره في تحمل المسؤولية (1)

الحمد لله وحده، والصلاة على من لانبي بعده، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا، وبعد:

لعل من المشكلات المعضلة التي تواجه كثيرا من الشباب وهم في مقتبل العمر: ضعف تحملهم للمسؤولية وضعف إحساسهم بها، وهي مشكلة قد تؤرق الكثيرين منهم؛ لحرصهم على الخير، ورغبتهم في نيل مرضاة الرحمن ومغفرته، ولاسيما في زماننا الذي كثرت فيه الملهيات والمغريات، إلا أنهم كلما أقبلوا على تحمل مسؤولية أو القيام بمهمة ما: لم يتيسر لهم أداؤها والقيام بها على وجهها، وقد يسبب ذلك إحباطا لهم، فتجد أحدهم يقول: أشعر بالكسل دائما، ونفسي لا تطاوعني لفعل الخير، ولا أدري ماذا أريد! ولا أعرف ماذا أفعل! ولا أستطيع تحمل أي مسؤولية!... إلى غير ذلك من العبارات التي تلتحف بوشاح الإحباط واليأس، ومردها إلى مشكلة ضعف تحمل المسؤولية، وهي مشكلة لها أسباب كثيرة لا مجال لحصرها هنا، وإنما المقصود: أن نقف على سبب نافع واحد من أسباب علاجها، وهو: اكتشاف الذات.

     إن المسؤولية تعني - في أحد تعريفاتها -: «المقدرة على أن يلزم المرء نفسه أولا، والقدرة على أن يفي بعد ذلك بالتزامه بواسطة جهوده الخاصة»، تأمل: «يلزم المرء نفسه»، فلا يستطيع واحد أن يتحمل المسؤولية إلا إذا كان له سلطان على نفسه، ومقدرة أن يلزمها وأن يفي بالتزاماته تلك، فلا ريب إذا - إذا أراد أن يتحمل المسؤولية - أن يتعرف على ذاته أولا ويكتشفها ليحدد إمكاناتها وما يمكن أن يلزمها به وما لا يمكنه.

     لذلك فإن الذات التي نقصدها بالاكتشاف هي: نفس الإنسان التي بين جنبيه، وهي عالم كبير له مجاهله التي قد تخفى على الإنسان فلا يتنبه إليها، لكنه مع ذلك يلزمه اكتشاف تلك الذات؛ لأنه لن يستطيع سياستها والتعامل معها إلا إذا عرفها، ولن تطاوعه في الخير، وتبغض إليه الشر، وتعتاد تحمل المسؤولية إلا إذا مرنها هو على ذلك؛ ولهذا قيل:

والنفس كالطفل إن تهمله شب على

                                             حب الرضاع، وإن تفطمه ينفطم

وقد سألت شيخي الدكتور أحمد النقيب - حفظه الله - عن هذه النفس: ما هي؟ فأجاب: هي ما قام بذات الإنسان من قوة معنوية هائلة، قد تكون في الخير وقد تكون في الشر؛ في كل إنسان بحسبه.اهـ

     ولهذا المعنى شواهد كثيرة، فالنفس قد تأمر صاحبها بالسوء وتطوعه له وتسوله، لكن سلطان القلب عليها يبقى - بالإرادة - أظهر وأتم، فالنفس لا تستطيع أن توقع الإنسان في معصية إلا إذا أراد هو ذلك بقلبه؛ فإن القلب هو سلطان الجوارح المؤمر عليها، وهو المضغة التي «إذا صلحت: صلح الجسد كله، وإذا فسدت: فسد الجسد كله».

     ولهذا فإننا - في كثير من الأحيان - نخلط بين رغبتنا في تحمل المسؤولية، وإرادتنا لذلك فعلا، ومنشأ الخلط هو عدم تفريقنا بين الرغبات والإرادات، فالرغبة أو الدافع أو الهوى يقوم بالنفس، وأما الإرادة فمحلها القلب، وتقوية الإرادة سبب أيضا من أسباب الشعور بالمسؤولية، لكننا هنا نتحدث عن الذات أو النفس، وما يقوم بها من دوافع ورغبات وأهواء تكون مؤثرة في تلك الإرادة، لكنها - أبدا - لا تكون متحكمة فيها إلا إذا مكنها الإنسان - بقلبه - من ذلك! وهل يفعل ذلك أحد؟ نعم، قال الله - سبحانه: -{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} (الفرقان: 43)، فهذا قد أخضع القلب للنفس وأذله لها، حتى صارت أهواؤها إلها يعبده القلب من دون الله، فمن كان ذلك حاله: فأي مسؤولية سيتحمل؟

     فالواجب على الإنسان إذا أراد تحمل المسؤولية: أن يعرف ما في ذاته من خصال الخير لينميها ويكثرها، وما فيها من خصال الشر ليدفعها ويقمعها، وقد أرشد الله - عز وجل - عباده إلى هذا المعنى فقال: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا { 7 } فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا { 8 } قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا { 9 } وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس: 7- 10)، فالمفلحون الذين يتحملون المسؤولية هم الذين يتعرفون إلى أنفسهم ويكتشفون ذواتهم؛ ليتمكنوا بعد ذلك من تقييمها ومحاسبتها وتقويمها، فيتحصل لهم من ذلك جميعا تزكية النفس والرقي بالذات في مراقي السعود، وهؤلاء هم الذين حكم لهم ربنا - عز وجل - بالفلاح.

     ولسائل أن يسأل: إذا كان اكتشاف الذات خطيرا إلى هذا الحد ومهما لتنمية الشعور بالمسؤولية، فكيف لي أن أكتشف ذاتي وأتعرف إلى نفسي؟ والجواب: أن هذا أمر فطري جبل الله عليه الإنسان كما قال: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } (القيامة: 14)، قال ابن زيد: «هو شاهد على نفسه»، وقال قتادة: «شاهد عليها بعملها»، وقال الحسن: «أي بصير بعيوب نفسه»، فهو بصير بنفسه عالم بها أكثر من غيره؛ لأنه الوحيد من الخلق العالم بجميع أعمالها دون الناس، لكن مما ينمي تلك البصيرة في الإنسان ويساعده على تقوية اكتشافه لذاته أمور منها:

1- أن يحاول الإنسان مراقبة ذاته كأنه ينظر إليها من بعيد، وهذه المقدرة في الإنسان على مراقبة نفسه والتأمل في سلوكه وتصرفاته كأنه ينظر إلى شخص آخر: «أمر بشري لا نظير له؛ حيث تفتقر الحيوانات لهذه القدرة التي نطلق عليها (إدراك الذات) أو القدرة على التفكير في عملية تفكيرك ذاتها»، «إن ملكة إدراك الذات هي قدرتنا على أن نخرج من ذواتنا لكي نرى أسلوبنا في التفكير ونفحصه، ونرى دوافعنا، وتاريخنا، ومبادئنا، وأفعالنا، وميولنا، وعاداتنا، أي أن نخلع تلك النظارة التي نرى العالم بها لننظر إليها كما ننظر من خلالها، إنها ملكة تجعلنا قادرين على رؤية التاريخ الاجتماعي والنفسي لتلك الرواسب الموجودة بداخلنا»، واكتشاف الذات وصولا إلى هذا المستوى من الإدراك: من أعظم أسباب الشعور بالمسؤولية.

إن هذه الملكة الفريدة في اكتشاف الذات كفيلة بتعرف الإنسان إلى ذاته بما تحقق له التوافق النفسي، وتمكنه - إن هو استعان بربه ومولاه - من تحمل المسؤولية على خير وجه وأحسنه، فلا يزال المرء مع نفسه كأنه يحدثها، فيأمرها وينهاها، وإليه الإشارة في قول الله - عز وجل -: { وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ} (النازعات: 40)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله» ، قال الترمذي: «معنى قوله «دان نفسه » يقول: حاسب نفسه في الدنيا قبل أن يحاسب يوم القيامة».

    وقد كان أهل العلم يجتهدون في ذلك؛ لأنهم يعلمون أن في اكتشافهم لأنفسهم سبيلا للتعرف على عيوبها والإقرار بها، ومن ثم يسهل عليهم التخلص منها؛ لتزكو النفس وتطهر، وهذه هي ثمرة اكتشاف الذات، وفي ذلك يقول ابن حزم - رحمه الله -: «كانت في عيوب، فلم أزل - بالرياضة واطلاعي على ما قال الأنبياء صلوات الله عليهم، والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق - حتى أعان الله -عز وجل- على أكثر ذلك بتوفيقه ومنه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق هو: الإقرار بها «أي: بعيوب النفس»؛ ليتعظ بذلك متعظ يوما إن شاء الله»، ثم أخذ يعدد جملة من تلك العيوب التي اكتشفها في نفسه فأعانه الله على التخلص منها، فقال: «فمنها كلف في الرضا وإفراط في الغضب، ومنها دعابة غالبة،ومنها عجب شديد، ومنها حركات كانت تولدها غرارة الصبا، ومنها محبة في بعد الصيت والغلبة، ومنها إفراط في الأنفة» إلى آخر ما قال، مما يدل على عنايته الشديدة - رحمه الله - باكتشاف ذاته.

كذلك مما يساعد الإنسان كثيرا على اكتشافه لذاته:

2- معرفته بصفات النفس عموما، ومنها:

1- أنها وإن كانت أضعف سلطانا من إرادة القلب - كما سبق بيانه -: إلا أن الإنسان قد يظلم هذه النفس التي بين جنبيه إذا ضعفت إرادته - لضعف قلبه - وانقادت لهوى النفس؛ كما قال الله - سبحانه -: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (البقرة: 231)، وقال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1)، وقال: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } (هود: 101)، وقد يظلمها الإنسان مع علو مرتبته في الدين؛ ويكون إقراره بذلك الظلم سببا في التوبة والاستغفار كما قال آدم وزوجه - عليهما السلام -: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23)، وقال موسى - عليه السلام -: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (القصص:16)، والآيات في ذلك كثيرة جدا.

2- أن النفس وإن كانت تابعة لإرادة الإنسان منقادة لها؛ إلا أنها قد تأمر بالسوء وتزينه للإنسان كما قال الله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (يوسف: 53)، وقد تسول للإنسان الكذب والغدر والخيانة كما قال يعقوب لبنيه: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} (يوسف: 18 و83)، بل قد تطوع له ارتكاب الكبائر حتى يصل الأمر إلى القتل كما قال الله عن ولد آدم: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} (المائدة: 30)، فهذه النصوص وغيرها دالة على أن تأثير النفس وإن كان قويا؛ إلا أنه لا يتعدى إطار التزيين (أمارة - سولت - طوعت -...)، فالواجب على الإنسان أن يقوي قلبه بالإيمان لتقوى إرادته؛ فلا تتمكن تلك النفس - حينئذ - من شر تزينه أو تسوله أو تأمر به.

ولعل الله - عز وجل - يوفقنا في عدد قادم إلى معرفة المزيد من صفات النفس، والمزيد من الأسباب المعينة على اكتشاف الذات، فننتفع بذلك، وتكون هذه المعرفة سبيلا لتأهيل ذواتنا نحو تحمل مسؤولياتها بأفضل وأرضى له - سبحانه -، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك