اقتصاص الحق من النفس إنصاف عادل
قال الله -تعالى-: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكّرون}(الأنعام: 152)، وقال -عز وجل-: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولايجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}(المائدة: 8)، قال مالك بن دينار: «وليس في الناس شيء أقل من الإنصاف»، ولقد قالوا:«ثلاثة من الحقائق: الاقتصاد في الإنفاق، والابتداء بالسلام، والإنصاف من نفسك»، وقال السابقون أيضا: ما أقل الإنصاف وما أكثر الخلاف!
قال الشاعر:
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته
على طرف الهجران إن كان يعقل
وقال آخر:
آخ الكرام المنصفين وصلهم
واقطع مودة كل من لا ينصف
أعلى درجات الإنصاف
عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، إن الاقتصاص من النفس وأخذ الحق منها يعد من أعلى درجات الإنصاف في الناس، ومن يعجز عن إنصاف نفسه من نفسه فمن باب أولى هو عاجز عن إنصاف غيره من نفسه والاقتصاص منها؛ فجبروت النفس وطغيانها بتجاوز الحد بتعظيمها وتبرئة ساحتها من كل جرم ترتكبه؛ فذلك من التسلط الأعظم ضررا على النفس ذاتها وعلى غيرها، بل على المجتمع بأسره، وقد يودي بصاحبها إلى مايسمى بداء العظمة والاستفراد والأوحدية في كل شيء، وقد يودي به إلى أن يكون شعاره في الحياة مع الناس كافة: {ما أريكم إلا ما أرى} ظلما وزورا وعدوانا !!
أحوال الناس
أعزائي القرّاء، بالنظر الثاقب العميق وبالتفكر الواسع الأفق في أحوال الناس في المجتمع، نشهد ما يبرز على سطح الأحداث والمجريات اليومية من مواقف عديدة، تستحق منا التوقف عندها وإبداء التوجيه اللازم إزاءها، كثير من الناس حينما يقع في حرج في لحظة ما، أو خوف يستشعره، أو فرار وهروب يتمناه كي لا يكتشف أمره، تجده يخرس عن قول الحق والحقيقة، ولاسيما عندما تحوم الحقائق أو الإدانة حوله وأهل بيته، تجده ينكرها أشد الإنكار مبرئا نفسه وأسرته؛ فهو مستعد أن يرخص بالغالي والثمين، بل ويدافع بشراسة أشد الدفاع عن باطله وزيفه وانتكاس مفاهيمه فقط في سبيل تخلية نفسه وحياته وأهله من عواقب لنتائج حصلت بسببه، ثم بعدما ينجو ينام قرير العين يحلم بالأحلام الوردية غير آبه ولا مهتم بمن ألقى التهمة عليه، وبمن حمّله جريرة فعل هو من يستحق أن يتلبّسه، وحق غيره منه أن ينصفه من نفسه إنصافا عادلا.
الجبن في مواجهة النفس
كثير من الناس بل أغلبهم مستعدون لاتهام غيرهم، ولكنهم جبناء في مواجهة أنفسهم، يتسابقون في ضرب غيرهم، ثم يتباكون على أنفسهم، وهو الضارب والمعتدي معا، بل هو الخصم الأكبر، وفي الوقت نفسه يتصدّر ليكون المرجعية في العدالة والحكم على الناس، وتجده مع هذا يتسابق وينافس المظلومين في طلب نيل الحكم لصالحه، ويحيا العدل إذا صدر الحكم لصالحه، بينما يموت العدل إذا لاح وظهر الحكم ضده، وهو أول المشتكين، وصدق المثل القائل: «رمتني بدائها وانسلّت»، و صدق المثل الآخر: «ضربني وبكى وسبقني واشتكى»!
ميزان العدل
عزيزي القارئ إن عدم اقتصاص الحق من أنفسنا تدن في الطبع يجدر بنا ونحن المجتمع بأسره أن نتصدّر المشهد ونبادر أولا بأخذ الحق من أنفسنا قبل أن نتهم غيرنا إن كنا فعلا المخطئين، ولكن في المقابل إن كنا بريئين من التهمة؛ فبلاشك سيكون لأنفسنا حق علينا في تبرئتها وحمايتها؛ فلا يعني اقتصاص الحق من أنفسنا أننا نكيل الاتهامات على أنفسنا بحجة ألاّ نظلم غيرنا؛ فميزان العدل مطلوب في كل شأن وحال؛ فالوسطية والاعتدال مطلوبان في شؤون حياتنا كلها؛ فقد نتظاهر بالبطولة في أحوال السراء وتبدو علينا الشهامة والجرأة والاجتراء على الآخر حين تكون صولة الحق لنا ومعنا، بينما عندما تنقلب الموازين ضدنا فكثيرون منّا يتملص من الاعتراف بخطيئته؛ لأننا ببساطة نخشى مواجهة أنفسنا في ميدان الحق والحقيقة.
قول الحق وامتثاله
عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، قول الحق وامتثاله أفعالا ولو على أنفسنا صفة جليلة القدر، رفيعة المستوى لايقوى عليها مذبذب الأخلاق مهتز القيم أو المرتج في ثوابته، إنصاف الآخر من النفس ينال بها المرء شرف السيادة على نفسه وقومه وذويه، وقبل ذلك كله ينال مرضاة ربه -عز وجل- ربنا -عز وجل- يقول في محكم تنزيله: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا}(النساء: 135).
هوى النفس
أعزائي القرّاء، هوى النفس يصيب صاحبه في مقتل، ويخلد به إلى الأرض، ويعمد في منهاج حياته إلى السقوط في أمور حياته كلها، بوابة الهوى تودي بصاحبها إلى الرّدى، وتفتح عليه بوابات الظلم والحيف على نفسه وغيره من الناس، وتفضي به إلى نهاية وخيمة غير مأسوف عليه، وستنقلب عليه موازين الحق والعدل في يوم ما شاء أم أبى، وخاب وخسر ، قال ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه العزيز: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين}(آل عمران 140).
لاتوجد تعليقات