اعتماد التربية وسيلة وغاية في وقت واحد- خطورة الاستعجال في التجميع على حساب التربية المنضبطة؟
التربية هي التي تحول العقيدة المستكنة في الضمائر يقينًا إلى حقيقة سلوكية في الواقع
التربية تحتاج إلى ترسيخ الأخلاق، وتقويم السلوك، وتعميق الوعي، ولا يتحقق هذا إلا بعمل مستمر دائم، وعزم لا يلين
هناك أزمة في القدوة؛ فلا تتحقق في الأب بالنسبة للولد، ولا في الأم بالنسبة للبنت، ولا في الأستاذ بالنسبة للطالب، ولا في الرأس بالنسبة للمرؤوسين
لم تُر الأمة الإسلامية بحالة من الضعف كهذه الحالة اليوم، حين استبدلت شريعتها، واستوردت مناهجها، وسقطت في التبعية لأعدائها
قوافل التوبة تؤوب إلى الله تترى، وهي خليط متنافر من سلوكيات تربوية،
لا يجمع بينها إلا أنها بعيدة عن المنهج السوي
تارة يكون الخلل بسب ضعف التربية، وتارة بسب عدم تدرج التربية وقفز الأغرار فوق أكتاف الثقات
التربية الجادة المتكاملة المنضبطة دعامة تحقيق الأهداف، سواء كانت أهدافًا علمية أم عملية
يحتاج الأمر إلى من يسد الثغرات في سائر المجالات من الطاقات والكفايات، ولا يتأتى هذا إلا بوجود الإنتاج التربوي المتين الغزير، الذي يوصف بالرجولة والصدق
عليه فلابد من جهد تربوي ضخم لتربية أدوات التغيير ووسائله من الدعاة والمصلحين
ويحتاج الأمر إلى من يسد الثغرات في سائر المجالات من الطاقات والكفايات، ولا يتأتى هذا إلا بوجود الإنتاج التربوي المتين الغزير، الذي يوصف بالرجولة والصدق
من حيز الإدراك الجامد إلى حيز التطبيق العلمي الحي، بصورة متدرجة ومتأنية ومتكاملة ومتوازنة ومستمرة، وبطريقة عميقة جذرية مؤثرة، هي ما تعنيه عبارة التربية والتزكية، فهي في حقيقتها تقريب المدعو من رتبة الكمال البشري بكل وسيلة مشروعة، وعليه، فالتربية تصنع الأجيال، وتهيئ الأشبال ليرتقوا ذرى الكمال، متسلحين بعقائد صحيحة، وأعمال صالحة، وأخلاق زاكية في الدنيا، كما تهيئهم لأنعم نعيم أهل الجنة في الآخرة، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة:22-23).
وإذا أطلقت كلمة الدعوة فإنها تشمل في طياتها البلاغ والتربية، وإذا اجتمعت مع التربية في سياق واحد كانت الدعوة حينئذ: البلاغ والتعريف، وكانت التربية: البناء والتكوين، فالأولى في حق الغافلين والجاهلين والمعرضين المصرين، والثانية في حق المستجيبين المقبلين.
وأهمية التربية والحاجة إليها، اعتمادًا وتطبيقا وممارسة، في الدعوة إلى الله، تظهر في الجوانب الآتية:
التربية مهمة الأنبياء:
لاشك أن الاشتغال بالتربية والتزكية هو طريق الأنبياء والعلماء والمصلحين قاطبة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة:2)، والتزكية هي التعبير القرآني لمصطلح التربية، وإن كان في معنى التربية من التعاهد والمتابعة للمتربي الصغير ما ليس في التزكية، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء:24)، وقال سبحانه: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} (الشعراء:18)، فكأن التزكية هي ثمرة التربية؛ ولذا قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (الأعلى:14).
فالتربية من أول أعمال الأنبياء والمرسلين وأولاها، وقد قال تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام:90)، وفي ممارسة النبي صلى الله عليه وسلم للتربية مع أصحابه صفحات مشرقة، حق على كل داعية أن يطالعها مقتديًا مهتديًا.
والتربية هي التي تحول العقيدة المستكنة في الضمائر يقينًا إلى حقيقة سلوكية في الواقع، وترسخ معاني الألوهية في القلب؛ ليصبح يقينًا لا تزلزله محنة وابتلاء، كما لا تغيره نعمة ورخاء، وهذه التربية تحتاج إلى ترسيخ الأخلاق، وتقويم السلوك، وتعميق الوعي، ولا يتحقق هذا إلا بعمل مستمر دائم، وعزم لا يلين. وأخيرًا؛ فإنه : «لا يُصلح آخر هذا الأمر ألا ما أصلح أوله».
التربية عصمة من الفتن:
وتتعاظم أهمية التربية؛ لأن الدعوة والدعاة يتعرضون فوق كل أرض وتحت كل سماء للفتن أنواعًا منوعة، بالخير والشر، والرغبة والرهبة، ولا يعصم -بإذن الله- من فتنة السراء والضراء إلا تربية تُعظِّم أمر الآخرة، وتصغِّر شأن الدنيا، وتؤثر ما يبقى على ما يفنى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (الأعلى:14-17).
التربية وقاية من مفاسد الزمن:
يتميز هذا الزمان بتقدم مذهل في وسائل التقنية ونقل المعلومات، وسرعة التواصل والاتصالات، وحقق هذا مصالح معلومة، وواكبها مفاسد مشهورة عبر الفضائيات والشبكات العنكبوتية، فدارت عجلة الفساد سريعة عبر تلك المعابر، اقتحمت حصون الأمة، وهددت من داخلها، كل ذلك يقتضي عناية خاصة بالتربية؛ لتكون حصانة للأمة بعامة، وللدعاة بخاصة. ويتميز هذا الزمان بأزمة في القدوة؛ فلا تتحقق في الأب بالنسبة للولد، ولا في الأم بالنسبة للبنت، ولا في الأستاذ بالنسبة للطالب، ولا في الرأس بالنسبة للمرؤوسين.
والتربية على العمل بالعلم، والتحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، والاقتداء والتأسي بالمثل الكامل، تحقق حصانة للأمة بعامة، وللدعاة بخاصة.
ويتميز هذا الزمان بأزمة في الكفاية والإتقان؛ فيُشتكى من جَلَد الفاجر وعجز الثقة، وتضعف القوة والكفاية، ويخف الصدق والأمانة.
والتربية على إحسان العمل، ورعاية حقوق الله تعالى، وحقوق خلقه، أداءً للأمانة، وقيامًا بالواجب، تمثل حصانة للأمة بعامة، وللدعاة بخاصة.
التربية سبيل التمكين:
لم تُر الأمة الإسلامية بحالة من الضعف كهذه الحالة اليوم، حين استبدلت شريعتها، واستوردت مناهجها، وسقطت في التبعية لأعدائها، والقيام بواجب التربية والتزكية للنفوس عامة هو في الحقيقة تهيئة الأمة للمطالبة بتحقيق شرع الله في الأرض وتطبيقه، وما أحسن مقولة من قال: «أقيموا دولة الإسلام في نفوسكم تقم في أرضكم».
وإن العناية بالتربية لطائفة مخصوصة من الأمة تهيئ لها فئات فذة قادرة على البذل والعطاء، وتحقيق الآمال، والمرابطة على الثغور العلمية والعملية؛ حماية للدين من كيد الكائدين وعبث العابثين.
وصفوة القول أن الواجب التربوي هو طريق الخلاص وأس التمكين.
الخلل التربوي هو الداء:
كثيرا ما يُرَدُّ الإخفاق في تحقيق الأهداف الدعوية إلى أسباب داخلية.
وعمدة هذه الأسباب عند التحقيق هو الخلل التربوي:
فتارة يكون الخلل بسب ضعف التربية، وتارة بسب عدم تدرج التربية وقفز الأغرار فوق أكتاف الثقات.
وتارة بسب عدم تكامل التربية؛ فتتضخم قضايا وأمور على حساب أمور أخرى لا تقل أهمية.
وتارة أخرى بسب عدم التوازن بين التربية وأصول ومنطلقات أخرى في الدعوة إلى الله.
وهكذا، فالتربية الجادة المتكاملة المنضبطة دعامة تحقيق الأهداف، سواء كانت أهدافًا علمية أم عملية.
وقد عد الإمام الشاطبي -رحمه الله- أمارات العالِم فذكر منها: «أن يكون ممن ربَّاه الشيوخ في ذلك العلم؛ لأخذه عنهم وملازمته لهم، فهو الجدير أن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا كان شأن السلف الصالح، فأول ذلك ملازمة الصحابة، رضي الله عنهم، لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذهم بأقواله وأفعاله، وصار مثل ذلك أصلًا لمن بعدهم، فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى فقهوا ذروة الكمال في الأمور الشرعية».
وتأسيسًا على ما سبق؛ فإن التربية ضرورة دعوية لا مناص منها؛ وذلك لأمور كثيرة، منها:
اتساع نطاق العمل الدعوي:
فقوافل التوبة تؤوب إلى الله تترى، وهي خليط متنافر من سلوكيات تربوية، لا يجمع بينها إلا أنها بعيدة عن المنهج السوي، وإقبالها على التربية وقد انتقلت إلى الصف الإسلامي بكل ما تحمله من رواسب المسالك الماضية، وإن تصعيدها في مدارج العمل الإسلامي من غير تصفية وتربية جادة لابد أن ينعكس بآثار وبيلة على العمل بأسره، ما لم يتدارك ذلك بتربية حاسمة ومؤثرة.
فلابد من إزالة أوضار الماضي وتأسيس بنيان الحاضر على أسس مستقيمة وقواعد متينة.
أهمية إفراز الصفوف الثانية وتنشئتها، والكفايات البديلة، وصناعة الأجيال:
فلا يصح ولا يصلح الاعتماد بعد الاتساع على شخصيات آسرة وقيادات كبرى فحسب؛ ذلك أن العمل التربوي يعتمد على المخالطة والاحتكاك المباشر، ولا يتأتى هذا لتلك القيادات الأولى، فلابد من همزة الوصل بين الأجيال، وهم أفراد تلك الصفوف الثانية من طلبة العلم والدعاة النابهين، الذين يعتمد عليهم في تحريك القلوب، ومتابعة التعليم والتقويم المستمر، وعليه فلابد من جهد تربوي ضخم لتربية أدوات التغيير ووسائله من الدعاة والمصلحين.
تنوع مجالات الدعوة وتخصصاتها ووسائلها:
ويحتاج الأمر إلى من يسد الثغرات في سائر المجالات من الطاقات والكفايات، ولا يتأتى هذا إلا بوجود الإنتاج التربوي المتين الغزير، الذي يوصف بالرجولة والصدق، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (الأحزاب:23).
فإن مجالات كثيرة قد أشرعت أبوابها، تنتظر من يلجها ويشارك فيها، ويضرب للدعوة فيها بسهم، وهذا يستلزم اعتماد التربية وسيلة وغاية في وقت واحد، مع التنبه إلى خطورة الاستعجال في التجميع على حساب التربية المنضبطة؟
لاتوجد تعليقات