استغلال غير سديد للسلطة الأبوية- ديكتاتورية الآباء
أعتذر مقدماً لجميع الآباء لاختياري هذا العنوان بالتحديد لمقالي، فلا يستطيع أحد أن ينكر فضلكم علينا وحقكم في البر والاحترام والعطف، ولكنها جملة ترددت على مسامعي كثيرا من أبناء بمراحل عمرية مختلفة أقصى أمانيهم بعض الحرية لاتخاذ القرارات المصيرية التي تخص مستقبلهم الشخصي لا غيره، بلا تدخل من أولياء أمورهم قائلين يكفينا التوجيه بلا إجبار فنحن فقط من نتحمل نتيجة الاختيار فاتركونا رجاء.
أوامرك بوصفك أباً قلبت الاحترام إلى خوف بقلب أبنائك عندما جعلت من المنزل وحدة عسكرية تُصدر بها الأوامر مع بعض العبارات مثل: (عليكم التنفيذ) (فأنا والد).. (أنا فقط من يفهم).. (أنا فقط من يستوعب الحياة).. (وأنت بلا خبرة)، فوجبت عليكَ الطاعة بلا نقاش أو تفاهم أو سرد أسباب للتوضيح والإقناع.
هم من يفكرون لنا
فتترك لدى ابنك انطباعاً بأنه لا يفهم ولا يقدر على الاستيعاب والده فقط من يفكر ويبتكر والولد يطيع؛ فيفقد الثقة بنفسه، فأنت من عمل على تربيته وأنت لا تثق فيه، ومازلت تهدم وتحط من طموحاته ورغباته وأفكاره لمجرد أنها مخالفة لما تربيت أنت عليه بوصفك أباً عليها.
هم لايثقون بنا
إننا نتعلم أن نثق في أنفسنا عندما نجد أقرب الناس إلينا يثقون فينا ونتعلم أن نحب أنفسنا عندما نجد أن الناس يحبوننا، وعندما لا يثق فينا أقرب الناس، لا نثق في أنفسنا وعندما لا يحبنا أقرب الناس لنا، فكيف نحب أنفسنا؟! وهذا مما يجعلنا غير قادرين على إتمام المشاريع والمثابرة لفقداننا الدافع الداخلي..
هم محاربون لنا
الأسرة بدلا من كونها المسكن والأمان صارت صالة للحرب يثبت بها الابن نفسه بأنه قوى، ويستطيع الاعتماد على نفسه وأن لديه رغبات يقاوم والده ليحققها، فقد جعل الأب من ابنه محارباً له بدلاً من كونه سنداً له لمحاربة العوامل الخارجية.
هم يستغلون سلطاتهم
كثيرا ما نتحدث عن العقوق ولكن يكاد أن ينعدم الحديث عن حق الأبناء مع وجود آباء ديكتاتوريين تجاه أبنائهم مستغلين سلطاتهم وحرمة عقوق الوالدين بوصفها ذريعة لتحقيق رغباتهم كالحاكم الظالم تجاه شعبه، فالابن المضطهد من والديه من ينصره؟! ومن يتعاطف معه؟! ولاسيما الفتاة لمن تلجأ؟ فالأب نال الحصانة لمجرد كونه أباً، واستغل السلطة الأبوية ليفرض على ابنه نمط حياة لا يريدها ومن جعلهم طرفاً في الصراع بينه وبين زوجته، وأفرغ غضبه عليهم بلا ذنب، ومن فرضت على ابنها أن يطلق زوجته، ومن فرض على ابنته زوجاً لا تريده وحكم عليها بالتعاسة الأبدية، ومن حرمها من شخص تريد أن تتزوجه فقد حكم عليها بكونها مذنبة العمر كله وتحمل على عاتقها ذنب رجل آخر فُرض عليها، ومن أغلق أبواب المستقبل على ابنته معلقاً إياها برجل مجهول ستصبح زوجته فقتل طموحها وأمنيتها برؤية السعادة على وجهه بنجاحها، وتعمد التقليل من شأنها حتى كرهت كونها أنثى.
هم عصبيون جدا
فهناك الكثير ممن يطبق الديكتاتورية يوميا مع أسرته، ويعاني في الوقت نفسه من العصبية الشديدة، لكنهم في الحقيقة نتيجة تربية ديكتاتورية شديدة فيعيش الابن كبتاً مخيفاً تجاه والديه إما من باب الشعور بالضعف بحكم صغر السن أو من باب الخوف من العقوق الذي يمنعهم من الانفجار أمام آبائهم ولكن ما إن كبروا، يكبر معهم الكبت والغضب الذي يصب بحكم التربية على أبنائهم وهكذا وبآخر المطاف يتساءلون عن السبب؟!
ديكتاتورية الآباء وأثرها على الزوجين والأبناء
لا شك أن لهذه الديكتاتورية آثارها النفسية والاجتماعية السيئة على الزوجين والأطفال معاً؛ فالأب يُعد أهم مؤثر سلباً أو إيجاباً على شخصية الأبناء ونفسيتهم، وبعض الآباء والأمهات يعاملون أبناءهم وكأنهم عبيد، وشدة عقوبة العقوق مسوغ لظلمهم وقسوتهم وجبروتهم على أبنائهم وبالتالي ينشأ الأبناء منذ الطفولة إلى حين بلوغهم مرحلة الرشد ومن ثم الارتباط بشريك الحياة وهم لا يُعتمد عليهم حاملين في طياتهم شخصيات ليست قادرة على اتخاذ قرار في أي موقف كان من الأمور الحياتية نتيجة لتربية خطأ وتحكمات مشينة، لدرجة أن بعضهم مهما تقدم به العمر يلجأ إلى والديه لاستشارتهم في أبسط الأمور، فالتحكم الكلي في الأبناء لا يساهم إطلاقاً في التربية بل على النقيض فالديكتاتورية تؤدي إلى الانحراف، فالابن لم يولد شريراً ولكن من خلال توجيهات وأنماط وسلوكيات خطأ أثرت فيما بعد على نظرته وسلوكه تجاه المجتمع بدءاً من المفهوم الخطأ لطاعة الوالدين، فحرمان ابنك من أمر يرغب به بلا توضيح لأسباب المنع قد يجعله يقوم به في الخفاء، فهؤلاء الأبناء كُبتوا خلال فترة صِغرهم وانفجروا عندما كبروا، ودائما ما يكون اعتراف الأبناء في حالات انفعال وغضب يصور بتصوير جامح البشاعة.
هم لايسمحون باختراق مافرضوه
فالأب المتسلط الديكتاتوري الذي لا يسمح باختراق القوانين التي فرضها على أسرته، ولا يسمح بأي مرونة في التعامل هو من زرع الخوف بقلب أبنائه من المبالغة في الأوامر والشدة وأيضاً المحبة والقلق الشديد عليهم متناسياً أن الخوف وعدم الأمان هما المادة الخام للأمراض النفسية.
هم مديرون في منازلهم
أين هؤلاء الآباء الديكتاتورين من قوله تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159) فهذا منطقه [، فالأب علاقته بأبنائه ليست علاقة موظف مع جهة عمل.. تفعل واجباتك وإلا فصلتك.. فالحب والرحمة والتوازن بين الشدة واللين، والتفرقة بين الشدة والحزم هما أساس التربية السوية، فيجب على الأب أن ينصح بحكم خبرته، ويناقش ابنه في قراره كنقاش أخ أو صديق مقرب، وحتى لو قرر الابن ما يخالف والده وما يراه خطأ يتركه لقراره ليتعلم الابن من أخطائه، فمناقشة الوالد تكون فقط للتوضيح فلا يُفرض عليه بالقوة، وأيضاً لا يتركه بكامل حريته فينحرف، ولكي يعلم الأبوان بكل صغيرة وكبيرة في حياة أبنائهم عليهم أن يكونوا قريبين منهم قدر المستطاع ليصلوا إلى مستواهم الفكري ليكون باستطاعتهم استيعابهم.
هم لايناقشون أمورنا
فاترك لهم حرية التصرف ولكن هذا لا يمنعك من التدخل والمراقبة وتوجيههم عن بعد، حتى لو كنت رافضاً لبعض الأمور التي يرغبون بها اترك مجالا للنقاش حتى تتمكن من إقناعهم أو يتمكنوا هم من إقناعك وبالتالي لا يكون رأيك وقرارك هو المتسلط دائما، فتطور الحياة يحتم علي الآباء أن يغيروا من نمط تربيتهم لأبنائهم؛ ففي العقود الماضية كانت كلمة الأب تسير على الجميع بمن فيهم الأم، ولا يكون هناك مجال للنقاش والجدال، وان كان رأيه قابلا للتغيير فإنه يصر عليه، أما في الوقت الحالي في ظل الرفاهية التي ينشأ عليها الغالبية العظمى من الأبناء يحتم على الآباء أن يكونوا أصدقاء لأبنائهم، ويتركوا عنهم أساليب التسلط.
هم يدمرون شخصياتنا
فيجب أن تنتهي الديكتاتورية التي يمارسها بعض الآباء بلحظة واحدة من مواجهة الذات، لحظة استمع بها إلى داخلك واعلم أن مفهوم الأبوة ليس بوابل الأوامر والمواعظ الحاسمة أو المعاملة بالقسوة والحرمان النفسي، وليس الحزم هو دوام العقاب، فالأبوة هي مسؤولية إنسانية تربوية وليست ذريعة لانتحال الشراسة القاسية وطقوساً تسلطية تعمل على قتل شخصية الأبناء وإخضاعها لرغبة الآباء في حين أن أبناءك هم امتداد لكَ في طريقة الحياة والتفكير والتصرف، رغم كراهيتهم لها.
فأصل الديكتاتورية أب تربى على يد ديكتاتور.. لكن هذه الحقيقة لا تنفي أبداً وجود آباء مثاليين يشهد لهم الجميع بأنهم مثال للآباء النموذجيين، الذين ضربوا أروع الأمثلة في تربية أبنائهم، وتوجيههم التوجيه النافع السليم في حياتهم، ومنحوهم الحب والحنان والاهتمام والحرية التي تمكنهم من شق طريقهم في الحياة والعيش وفق النهج الذي يرغبون فيه بما يرضي الله ورسوله، بعيدًا عن التعسف وتعكير صفو الحياة التي اختاروا أن يحيوها بالطريقة التي تناسبهم.
لاتوجد تعليقات