اختصاصي الصحة النفسية د. أبوبكر القاضي للفرقان: تحقيق التوازن النفسي في حياة المسلم مرتبط بمدى تحقيقه العبودية لله تعالى
- السبب في ضعف الإنسان وانهياره نفسيا أمام الابتلاءات هو عدم إدراكه لحقيقة الدنيا وأنها دار ابتلاءات وأكدار
- الصامد نفسيًّا لا يلوم الظروف ولا يلوم الأشخاص ولا يعلِّق أخطاءه على شماعة الآخرين
- من علامات الهشاشة النفسية عدم القدرة على إدارة الضغوط وعدم تحمل المسؤولية والعيش في دور الضحية
- الإنسان قادر على التوافق مع التحديات ومع المسؤوليات والضغوط والظروف بحيث يستقيم تفكيره ومشاعره وسلوكياته
- بقدر يقين الإنسان أن البلايا والمصائب والمحن بقدر الله يكون ثباته وصموده أمام تلك الابتلاءات والصدمات
- المؤمن متفهم ومدرك لطبيعة الحياة الدنيا ومستحضر دائمًا قضية الجزاء والحساب والثواب من الله تعالى
- الصمود النفسي هو التَّكَيُّف والتأقلم والتوافق مع الواقع مهما كان فيه من تحديات أو صدمات
- من منظور عِلْم النَّفْس الإيجابي؛ فإن الصمود النفسي يتضح ويظهر في شخصية الإنسان من خلال قدرته على التحكم الذاتي بحياته
تعاملت الشريعة الإسلامية مع الإنسان بمنهج وسطي معتدل، ولبت له كل احتياجاته النفسية والبدنية وحققت له أقصى درجات التوزان النفسي، ليحقق العبودية لله -تبارك وتعالى-، ويسهم في عمارة الأرض وتنمية مجتمعه ورقيه ، وذلك من خلال قوة الصلة بالله التي هي أساس في بناء الشخصية المسلمة وتحقيق الثبات النفسي والتوازن الانفعالي في حياتها، لتكون خالية من القلق والاضطرابات النفسية، حول هذا الموضوع وكيفية تحقيق هذا الهدف يسر مجلة الفرقان أن تجري هذا الحوار مع د.أبي بكر القاضي، الداعية المعروف واختصاصي الصحة النفسية.
- ما تعليقكم على الهشاشة النفسية التي أصابت كثير من الناس في هذا الزمن، حتى أصبح الكثيرين يعانون من الحيرة وعدم الاتزان النفسي؟
- لا شك أن سبب هذا التخبط وهذا الضعف؛ أن الإنسان فقد اتصاله بالغاية والقضية والرسالة التي من أجلها خُلِق، قال الله -تبارك وتعالى-: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام: 71)، فالذي يجعل الإنسان يضعف وينهار هو عدم إدراكه لحقيقة الدنيا، فيحياها على أساس أنها فردوس أرضي! وحقيقة الحياة التي لابد أن ندركها جميعًا أن فيها أوجاع، وفيها آلام، وفيها صدمات؛ وإنما الله -تبارك وتعالى- أنزلنا في هذه الدنيا في الأصل عقوبة؛ فقد أُخرج آدم - عليه السلام - من الجنة عقوبة على أكله من الشجرة التي نهاه الله -عز وجل- عن الأكل منها هو وحواء -عليهما السلام-، قال -تعالى-: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (طه:١١٧)، فكان الخروج من الجنة عقوبة وشقاء في هذه الدار، ففي الدنيا يوجد موت، يوجد فراق أحبة، في الدنيا يوجد سقم وأمراض، والإنسان لابد أن يفهم هذا ويستوعبه جيدًا، ويعي أن في الدنيا بعد الشباب ضعفًا وشيبة، وأن في الدنيا أنكادًا وهمومًا وغمومًا، والجنة وحدها هي التي ليس فيها شيء من تلك الآلام والمنغصات.
- ما علامات الهشاشة النفسية؟
- من علامات الهشاشة النفسية والضعف النفسي: عدم القدرة على تحمل الأعباء، أو إدارة الضغوط، فضلًا عن تحمل المسؤولية وعيش دور الضحية، وعدم القدرة على التوافق مع الظروف الصعبة وتحديات الحياة.
- هل صحيح أن سبب المرض النفسي هو عدم التكيُّف مع الواقع وعدم التوافق معه؟
- نعم، هذا صحيح، ويستطيع المسلم الملتزم أن يتجاوز كل هذه التحديات، بتقبله لفكرة أن عدم التوافق مع الواقع المخالف للشرع، ومقاومته والسعي في إصلاحه بضوابط الشرع وبهدي الأنبياء والرسل، وشريعة خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، إنما هو ابتلاء سيؤجر عليه من الله - عزوجل -، وإيمانه بأنه يعيش في زمن الغربة، وأن له طوبى التي بَشَّر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - الغرباء، كما في الحديث الشريف عن أبي هريرة - رضي لاله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى للغربا» (رواه مسلم)؛ يجعله يصبر ويحتسب، ويأخذ بأسباب الصمود والتكيف مع هذا الواقع الصعب.
- هل هناك مقياس أو ميزان للصحة النفسية عند الإنسان وكونه شخصًا سويًّا أم لا؟
- دومًا المقياس هو القدرة على التوافق والتوازن في الحياة؛ فإذا كان الإنسان قادرًا على التوافق مع التحديات ومع المسؤوليات، والضغوط والظروف؛ بحيث يستقيم تفكيره ومشاعره وسلوكياته، فهذا هو المقياس، أما إذا اختل شيء من هذه السمات، فإن هذا الاختلال يعد أمارة على المرض أو الاضطراب النفسي، فضلًا عن الهشاشة النفسية.
- نسمعك تذكر كثيرًا مصطلح الصمود النفسي، ما معناه وما أهميته؟
- الصمود النفسي هو التَّكَيُّف، والتأقلم، والتوافق مع الواقع مهما كان هذا الواقع فيه تحديات أو صدمات، ومهما كان هذا الواقع فيه مآسٍ أو ضغوط؛ فالصمود هو القدرة على النهوض بعد الصدمة أو المحنة.
- ما سمات الصمود النفسي وأهم مظاهره؟
- من منظور عِلْم النَّفْس الإيجابي؛ فإن الصمود النفسي يتضح ويظهر في شخصية الإنسان من خلال قدرته على التحكم الذاتي بحياته؛ فالصامد نفسيًّا لا يلوم الظروف، لا يلوم الأشخاص، لا يعلِّق أخطاءه على شماعات أحد، بل هو قادر على الاعتراف بذلك، وقادر أن يقول: أنا أخطأت، ويرجع عن هذا الخطأ، وهذه النقطة مهمة جدًّا؛ لأن الكثيرين يعيشون دور الضحية، ويعتقدون أن حياتهم كلها التي يتحكم فيها هم البشر، أو مَن حولهم، أو الظروف؛ بحيث أنه في كل مسألة، وفي كل أزمة، وفي كل محنة يتمثَّلون المنطق التسويغي؛ فهم كثيرو التسويغ بالظروف، ويسوغون للفشل دومًا.
الأخذ بالأسباب
والصامد نفسيًّا يؤمن أنه مكلَّف بالأخذ بالأسباب، وأنه قادر على الأخذ بأسباب القوة، والأخذ بأسباب النجاح، والأخذ بأسباب الفلاح، فيحرص على العمل الجاد على تحقيق أهدافه؛ بحيث إذا أراد شيئًا أخذ بالأسباب المتاحة واجتهد في ذلك وسعى في تحصيله - بإذن الله -؛ فالصامد نفسيًّا يستطيع التركيز على هدفه والعمل على تحقيقه، ويستوعب أزمات حياته أو يعالجها على أنها تحديات.المبادرة والمواجهة
كما أن الصامد نفسيًّا قادر على المبادرة، والمواجهة؛ فلا يعتمد في إدارة حياته ومشكلاته على مبدأ الفرار والهرب، بل يواجه المشكلات ويعمل على إيجاد الحلول لها، والانتقال إلى الأحوال الأفضل والأكمل وعدم الاستسلام لما يتعرض من محن وأزمات، فليس المقصود بالصمود والصبر، الرضا والركون إلى الأمر الواقع، والهرب من المواجهة، بل على العكس؛ فإن الصامد الصابر هو مَن يواجه البلاء، ويأخذ بالأسباب لدفعه ورفعه؛ فيأخذ بالأسباب الشرعية من الصلاة، والدعاء، وبالأسباب الكونية أيضًا من التداوي وغيره.مواجهة استباقية لدفع البلاء
والقدرة المواجهة تشمل كذلك أن يكون الصامد نفسيًّا لديه مواجهة استباقية لدفع البلاء، بمعنى أنه يوطن نفسه على مشاق الحياة ومصاعبها ومنغصاتها مع تحصيل مهارات الصبر، ومهارات الصمود قبل أن تصاب بأي مصيبة، فإذا نزل به ما يكره دافع ذلك وواجهه دون ملل، ولا يأس.المرونة العقلية
كما أن الصامد نفسيًّا يتصف بالمرونة العقلية، وهي من أهم مهارات الشخصيات الذين يتجاوزون المحن، ويريدون أن يتجاوزوا أي تحدٍّ في حياتهم؛ ولذلك فهؤلاء يستطيعون أن يتكيفوا مع أي تغير، وأن يتشكلوا مع أي قالب جديد.- ما العقبات التي تعترض الإنسان لتحقيق الصمود النفسي؟ وكيف يمكن تجاوزها؟
- من العقبات التي تعترض طريق الإنسان لتحقيق الصمود: كيفية استقباله للحدث، وتضخيمه للمسألة، والنظرة التفسيرية التي يتلقى بها المحن والضغوطات، وكل مقاصد العلاج المعرفي السلوكي لعلاج كرب ما بعد الصدمة قائمة على النظرة التفسيرية؛ بمعنى: كيف يرى الإنسان الصدمة والمحنة التي نزلت به، وكيف يستقبل الحدث على حسب معتقداته الجوهرية البسيطة وتكويناته المعرفية؟ وشرعًا هذه النظرة التفسيرية عند العبد ينبغي أن تكون قائمة على حسن الظن بالله، والعلم به -سبحانه-، وبأسمائه وصفاته، وبكماله، وجلاله، وحكمته، ورحمته.
التفرد بالمعاناة
وكذلك من هذه العقبات الخطيرة: وهم التفرد بالمعاناة، وهو وهم: «فإنَّكَ لَمْ تُصَبْ بمُصِيبَتِي»، كما قالت تلك المرأة التي: مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهَا تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: «اتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي»، قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي! وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ. فَقَالَ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» (متفق عليه)، فوهم أنا وحدي المتألم في هذه الدنيا، أنا وحدي مَن عانى فراق الأحبة، أو عانى هذا المرض، أو عانى من كذا وكذا! هو من أخطر العقبات.مخطئ من يفكر بهذه الطريقة
وبالقطع واليقين، مخطئ من يفكر بهذه الطريقة؛ فهو ليس وحده على طريق المعاناة؛ بل الجميع له نصيب من ذلك؛ لأن هذه هي طبيعة الحياة الدنيا - كما ذكرنا - من أنها دار ابتلاء؛ قال الله - سبحانه وتعالى-: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} ( الملك:1-2)، فالدنيا إذًا دار اختبار وابتلاء للجميع؛ الكل فيها مُبتلى، المؤمن والكافر؛ قال الله -عز وجل-: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النساء: ١٠٤).- إذًا المؤمن والكافر يتألمان، لكن ما الفرق بين المؤمن والكافر؟
- الفرق هو: أن المؤمن متفهم ومدرك لطبيعة الحياة الدنيا؛ فهو يحتسب هذا البلاء في موازين الحسنات، ويستحضر قضية الجزاء والحساب، ويرجو الأجر والثواب من الله -تبارك وتعالى- على الأعمال الصالحة والصبر على البلاء؛ ولذلك فهو صابر صامد، بخلاف الكافر؛ فهو دائم الجزع والفزع؛ فهو كالبعير عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثم أَرْسَلُوهُ فلم يَدْرِ لِمَ عقلوه ولِمَ يدرِ لِمَ أَرْسَلُوهُ! {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ}.
العلاقة بين الصمود النفسي والتدين
العلاقة بين الصمود النفسي والتدين ظاهرة بيِّنة، فبقدر يقين الإنسان أن البلايا والمصائب والمحن إنما يقدرها الله لحكم عظيمة جليلة، ورحمة بخلقه وعباده وتمحيصًا لهم، ورفعة لدرجاتهم، بقدر ما يكون ثبات الإنسان وصموده أمام الابتلاءات والصدمات المتكررة؛ التي هي من شأن الحياة الدنيا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ العبدَ إذا سبقتْ له من اللهِ منزلةٌ فلم يبلُغْها بعملٍ؛ ابتلاه اللهُ في جسدِه أو مالِه أو في ولدِه، ثم صبر على ذلك حتى يُبلِّغَه المنزلةَ التي سبقتْ له من اللهِ -عز وجل» وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِه وولدِه ومالِه حتَّى يلقَى اللهَ -تعالى- وما عليه خطيئةٌ»، وقال - صلى الله عليه وسلم- لما سُئل: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: «الأنبياءُ، ثم الصالحون، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبتلى الرجلُ على حسبِ دِينِه، فإن كان في دِينِه صلابةٌ، زِيدَ في بلائِه، وإن كان في دِينِه رِقَّةٌ، خُفِّفَ عنه ولا يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ حتى يمشي على الأرضِ وليس عليه خطيئةٌ».
لاتوجد تعليقات