«احفظ الله يحفظك» من حقـوق ولاة الأمـر: معاونتهم عـلى الحـق وطاعتهم فيه
إن من توجيهات الإسلام السديدة وهداياته العظيمة بيان ما يجب على الرعية تجاه الراعي، وعلى المحكومين تجاه الحاكم من حقوقٍ عظيمة لا تنتظم مصالح العباد الدينية والدنيوية إلا بها؛ فإن الرعية -عباد الله- متى رعَوا تلك الحقوق واعتنوا بها تحققت لهم الخيرية، وانتظمت مصالحهم الدينية والدنيوية؛ من أمنٍ وأمانٍ، وبُعد عن القلق والاضطراب والمخاوف، وانتظامٍ لجميع مصالح العباد. وإن من المتقرر أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمام، ولا إمام إلا بسمع وطاعة؛ فهي أمورٌ آخذ بعضها ببعض، لابد من مراعاتها والعمل على تحقيقها لتتحقق للعباد خيريَّتهم ولتنتظم مصالحه.
قال الله -تعالى-: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}، يقول الإمام الطرطوشي: لولا أن الله -تعالى- أقام السلطان في الأرض يدفع القوي عن الضعيف، وينصف المظلوم من الظالم، لأهلك القوي الضعيف، وتوافد الخلق بعضهم إلى بعض؛ فلا ينتظم لهم حال، ولا يستقر لهم قرار، وتفسد الأرض ومن عليها.
فضيلة الملك
قال الألوسي في تفسير هذه الآية: وفي هذا تنبيه على فضيلة الملك، وأنه لولاه ما استتب أمر العالم، يقول أنس - رضي الله عنه -: «نهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله قالوا: لا تسبوا أمراءكم ...»، وذكر الإمام القرافي في كتابه (الذخيرة) فقال: «قاعدة ضبط المصالح العامة واجب ولا ينضبط إلا بعظمة الأئمة في نفس الرعية، ومتي اختلفت عليهم أو أهينوا تعذرت المصلحة ...».
فهم منهج السلف
وقد أشار أيضاً العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله - إلي الحكمة في ذلك بقوله: «فالله الله في فهم منهج السلف الصالح في التعامل مع السلطان، وألا يتخذ من أخطاء السلطان سبيلاً لإثارة الناس وإلي تنفير القلوب عن ولاة الأمور، فهذا عين المفسدة، وأحد الأسس التي تحصل بها الفتنة بين الناس، كما أن ملء القلوب على ولاة الأمر يحدث الشر والفتنة والفوضى، وكذا ملء القلوب على العلماء يحدث التقليل من شأن العلماء، ومن ثم التقليل من الشريعة التي يحملونها؛ فإذا حاول أحد أن يقلل من هيبة العلماء وهيبة ولاة الأمر ضاع الشرع والأمن؛ لأن الناس إن تكلم العلماء لم يثقوا بكلامهم وإن تكلم الأمراء تمردوا على كلامهم، فحصل الشر والفساد، فالواجب أن ننظر مسلك السلف تجاه ذوي السلطان، وأن يضبط الإنسان نفسه ويعرف العواقب، وليعلم أن من يثور إنما يخدم أعداء الإسلام؛ فليست العبرة بالثورة ولا بالانفعال، بل العبرة بالحكمة». ويقول ابن جماعة وهو من الشافعية: قال بعض الحكماء: جور السلطان أربعين سنة خير من رعية مهملة ساعة واحدة، لو أُهْمِلت الرعية ساعة لعمت الفوضى، وأكل القوي الضعيف.
هيبة السلطان
قال سهل التوستوري العالم الرباني -رحمه الله تعالى-: لا يزال الناس بخير ما عظَّموا السلطان والعلماء، فإن عظَّموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين أفسدوا دنياهم وأخراهم، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «يجب أن يُعرَف أن ولاية أمور الناس -الولاية الحكم- من أعظم واجبات الدين»، ويقول القاري العلامة: من أهان سلطان الله في الأرض أي أذل حاكما بأن آذاه أو عصاه أهانه الله، ويقول حذيفة - رضي الله عنه - محذرا من احتقار ولي الأمر أو التقليل من شأنه يقول: ما مشى قوم شبرا إلى السلطان ليذلوه إلا أذلهم الله.
لذلك فعلى الأمة أن تقوم بجانب الإمام وتساعده على نوائب الحق، ولا تُسْلِمُه لأعدائه المفسدين سواء كانوا في الداخل أم الخارج، قال الله -عزوجل-: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2)، ولا شك أن معاضدة الإمام الحق ومناصرته من البر الذي يترتب عليه نصرة الإسلام والمسلمين، يدل على ذلك أيضًا ما رواه عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا رقبة الآخر...»، قال أبو يعلى: وإذا قام الإمام بحقوق الأمة وجب له عليهم حقان الطاعة والنصرة ما لم يوجد من جهته ما يخرج به عن الإمامة.
احترام الإمام وتقديره
فعلى المسلمين احترام الإمام وتقديره والدعاء له وعدم إهانته حتى يكون له مهابة عند ضعاف النفوس، فيرتدعون عما تمليه عليهم عواطفهم وشهواتهم، روي عن زياد بن كسيب العدوي قال: «كنت مع أبي بكرة - رضي الله عنه - تحت منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رقاق، فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق، فقال أبو بكرة: اسكت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله»، وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من إجلال الله -تعالى- إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط»، وقال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: «ما مشى قوم إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله قبل أن يموتوا»، وقال الفضيل بن عياض: «لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للإمام؛ لأن به صلاح الرعية، فإذا صلح أمنت العباد والبلاد»، وقال سهل بن عبد الله -رحمه الله-: «لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين أفسدوا دنياهم وأخراهم».
المناصحة
ولابد أن يعلم أن الإمام بَشَرٌ، يعتريه ما يعتري البشر من الضعف والخطأ والنسيان، ولذلك شرعت النصيحة له لتذكيره وتبيين ما قد يخفى عليه من الأمور، وهذه من حقوقه على الرعية، فعلى الرعية القيام بأدائها إليه سواء طلبها أم لا، والأدلة على هذا كثيرة منها: ما رواه مسلم في صحيحه عن تميم الداري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدين النصيحة». وفي رواية - قالها ثلاثًا - قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، وهذا من الأحاديث العظيمة ومن جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -، قال النووي: «وأما ما قاله جماعة من العلماء أنه أحد أرباع الإسلام، أي: أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام فليس كما قالوا بل المدار على هذا وحده».
النصيحة لله
ومعنى النصيحة لله كما نقله النووي عن الخطابي وغيره من العلماء: أن معناها منصرف إلى الإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الكمال، والجلال كلها، وتنزيهه -سبحانه وتعالى- عن النقائص جميعها، والقيام بطاعته، واجتناب معصيته، والحب فيه والبغض فيه.
النصيحة لكتاب الله -تعالى
وأما النصيحة لكتابه -سبحانه وتعالى-: فالإيمان بأنه كلام الله -تعالى- وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها.
النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم
وأما النصيحة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فتصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حيًا وميتًا، ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء سنته وبث دعوته ونشر شريعته.
النصيحة لأئمة المسلمين
وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه، وأمرهم به وتذكريهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب الناس لطاعتهم.
النصيحة لعامة المسلمين
وأما النصيحة لعامة المسلمين وهم من عدا ولاة الأمر: فبإرشادهم إلى مصالحهم في آخرتهم ودنياهم... وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
مكانة السلطان
وينبغي للناصح للسلطان أن يراعي مكانته؛ بحيث لا يخرق هيبته. يدل على ذلك حديث عياض بن غنم الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «من كان عنده نصيحة لذي سلطان فلا يكلمه بها علانية، وليأخذ بيده فلْيخل به، فإن قَبِلَهَا، قَبِلَهَا، وإلا كان قد أدى الذي عليه والذي له»، كما أنه يجب على الناصح أن يحذر التأنيب والتعيير والغيبة والسعاية حتى تكون خالصة لله -تعالى.
من أمِنَ العقوبة أساء الأدب
«من أمِنَ العقوبة أساء الأدب»، مقولة عظيمة نعم من أمن العقوبة أساء الأدب وهذا مشاهد وملموس، إذا ذهبت هيبة القوانين والعقوبات جاءت الفوضى، سُئِلَ الشيخ الفوزان -حفظه الله-، ما رأي فضيلتكم في بعض الشباب الذين يتكلمون في مجالسهم عن ولاة الأمور بالسب والطعن فيهم؟ فأجاب، هذا الكلام معروف أنه باطل وهؤلاء إما أنهم يقصدون الشر وإما أنهم تأثروا بغيرهم من أصحاب الدعوات المضلة، فهذه ليست طريقة السلف - أهل السنة والجماعة - أن يُسْقِطَ هيبة السلطان. يقول الفضيل بن عياض لو كان لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان، قيل له يا أبا علي: فسر لنا هذا، يقول: إذا جعلتها في السلطان صَلُحَ، وصَلُحَ بصلاحه العباد والبلاد.
لاتوجد تعليقات