رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: رائد الحزيمي 15 يوليو، 2019 0 تعليق

«احفظ الله يحفظك» محبطات الأعمال

 

قال الله -تعالي-: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}؛ فلنتأمل في هذا المثل البديع الذي رسم مشهدًا عجيبًا ببيان رائع.

     المشهد يصور رجلاً غنياً أعطاه الله -تعالى- من النعم، ووسع عليه من الرزق، له بستان يحتوي على أنواع الفواكه والثمار، تمر الأنهار داخله من عظمته، وهي أنهار عديدة وليس نهراً واحداً وتسقيه، وهذا الإنسان كل ثروته في هذا البستان، ينفق منه على نفسه وعلى أولاده فيكفيهم ويغنيهم، واستمر على هذا الحال إلى أن أدركته الشيخوخة وكبرت به السِنّ؛ فلم يعد يستطيع العمل وأطفاله صغار، لا أمل له أن يديروا البستان ويعتنوا به، وليس له رزق إلا في هذا البستان الذي يخرج له الخير الكثير، وبينما هو في هذه الحال التي هو أحوج ما يكون لثمار بستانه، جاءت ريح عاصفة مدمرة تصحبها نارٌ محرقة؛ فأحرقت الزرع والثمر ولم يبق من البستان شيء؛ فكم تكون مصيبته عظيمة؟! 

مثل قلّ من يعقله

فهذا مثل قلّ والله من يعقله: شيخ كبير ضعف جسمه، ووهن عظمه، وكثر أولاده وصبيانه أحوج ما كان لجنّته؛ فجاءها إعصار فيه نار؛ فاحترقت وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا. 

     قال أبو جعفر: قال - جل ثناؤه - لعباده المؤمنين: أيود أحدكم أن تكون له مثلا لنفقة المنافق التي ينفقها رياء الناس، لا ابتغاء مرضاة الله؛ فالناس - بما يظهر لهم من صدقته، وإعطائه لما يعطي وعمله الظاهر - يثنون عليه ويحمدونه بعمله ذلك أيام حياته في حسنه كحسن البستان، وهي الجنة التي ضربها الله -عز وجل- لعمله مثلا من نخيل وأعناب، له فيها من كل الثمرات؛ لأن عمله ذلك الذي يعمله في الظاهر في الدنيا، له فيه من كل خير من عاجل الدنيا، يدفع به عن نفسه ودمه وماله وذريته، ويكتسب به المحمدة وحسن الثناء عند الناس، ويأخذ به سهمه من المغنم مع أشياء كثيرة يكثر إحصاؤها؛ فله في ذلك من كل خير في الدنيا، كما وصف - جل ثناؤه - الجنة التي وصف مثلا لعمله، بأن فيها من كل الثمرات،  ثم قال -جل ثناؤه-: وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء. يعني أن صاحب الجنة أصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء صغار أطفال؛ فأصابها. يعني: فأصاب الجنة – إعصار فيه نار فاحترقت، يعني بذلك أن جنته تلك أحرقتها الريح التي فيها النار، في حال حاجته إليها، وضرورته إلى ثمرتها بكبره، وضعفه عن عمارتها، وفي حال صغر ولده وعجزه عن إحيائها والقيام عليها؛ فبقي لا شيء له، أحوج ما كان إلى جنته وثمارها، بالآفة التي أصابتها من الإعصار الذي فيه النار .

رياء الناس

     يقول: فكذلك المنفق ماله رياء الناس، أطفأ الله نوره، وأذهب بهاء عمله، وأحبط أجره حتى لقيه، وعاد إليه أحوج ما كان إلى عمله، حين لا مستعتب له، ولا إقالة من ذنوبه ولا توبة، واضمحل عمله كما احترقت الجنة التي وصف - جل ثناؤه - صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذريته أحوج ما كان إليها؛ فبطلت منافعها عنه.

     وهذا المثل الذي ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس في هذه الآية نظير المثل الآخر الذي ضربه لهم بقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا}؛ فالإنسان الذي عمل أعمالا جليلة في حياته الدنيا رياءً، إذا أتى يوم القيامة جعلها الله هباء منثورًا، وقد انقضى وقت العمل، هذا مثال لأصحاب الرياء وأهل السمعة ومثال لمن ضيع عبادته، يقول ابن القيم في الوابل الصيب: «ليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه»، يقول الله -تبارك وتعالي-: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}، وقال ايضا: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}.

قال أحدهم: ظنوا أن أعمالهم حسنات فبدت لهم سيئات، قال الله -تعالي-: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.

محبطات الأعمال

وهذه جملة من محبطات الأعمال حري بالمسلم أن يتوقاها:

الشرك بالله

الشرك بالله -تعالى- هو الداء العضال والمرض القاتل لا محالة إلا أن يتوب صاحبه، ومن تاب تاب اللَّه عليه، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}( الزمر: 65).

     وقال -تعالى- عن أنبيئه والصفوة من خلقه: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(الأنعام: 88)، وقال -تعالى-: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}(التوبة: 17). وإن من سنن اللَّه -تعالى- التي لا تتغير، أن اللَّه لا يقبل من عباده عملا إلا أن يأتوا بالتوحيد الذي هو حق اللَّه على العبيد؛ فقد روى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد اللَّه بن جدعان، وكان رجلاً مشركًا، مات في الجاهلية، يطعم الطعام، وينصر المظلوم، وله من أعمال البر الكثير؛ فقال صلى الله عليه وسلم : «ما نفعه ذلك، إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين».

الاستهزاء بالدين وأهله

     الاستهزاء بالدين من أخطر الكبائر وأعظمها؛ لأن صاحبه مريض القلب، مستهين بالدين، لا يرضاه منهجا للحياة، ويفضل عليه غيره، قال الشيخ صالح الفوزان - رحمه الله -: ومثل هذا ما يقوله بعضهم: إن الإسلام لا يصلح للقرن العشرين، وإنما يصلح للقرون الوسطى، وإنه تأخر ورجعية، وأن فيه قسوة ووحشية في عقوبات الحدود والتعازير، وأنه ظلم المرأة حقوقها؛ حيث أباح الطلاق وتعدد الزوجات وقولهم: الحكم بالقوانين الوضعية، أحسن للناس من الحكم بالإسلام، ويقولون في الذي يدعو إلى التوحيد وينكر عبادة القبور والأضرحة، هذا متطرف، أو يريد أن يفرق جماعة المسلمين، أو هذا وهابي أو مذهب خامس، وما أشبه هذه الأقوال التي كلها سب للدين وأهله واستهزاء بالعقيدة الصحيحة، وكاستهزائهم باللحية والحجاب وإدخالها في النكت وفي الضحك، ولاشك أن تعظيم شعيرة الله وحرماته من التقوى، قال -تعالى-: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّه}.

الرياء

     وهو الشرك الأصغر، قال الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(البقرة: 264)، وعن أبي أمامة رضي الله عنه ، قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ماله؟ قال: «لا شيء له»؛ فأعاده عليه ثلاثاً كل ذلك يقول: «لاشيء له»، ثم قال: «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه»، وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر: الرياء، يقول الله إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟»، وعن أبي سعد بن أبي فضالة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان قد أشرك في عمل عمله؛ فيطلب ثوابه عنده؛ فإن الله أغنى الأغنياء عن الشرك».

ترك صلاة العصر

     ومن المحبطات أيضا ترك صلاة العصر؛ فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الذي تفوته صلاة العصر كأنما وُتِر أهله وماله»، وعن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله».

إتيان الكهان والعرافين

     ومن المحبطات إتيان الكهان والعرافين وتصديقهم؛ فعن بعض أمهات المؤمنين قالت: قال رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنا، أو عرافا؛ فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد».

الظلم

      قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم  :  المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وسب هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دماء هذا، وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته؛ فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» رواه مسلم .

انتهاك الحرام في الخلوات

     والجرأة على انتهاك الحرام في الخلوات من أكبر محبطات الأعمال؛ فعن ثوبان قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لأعلمن رجالا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات كأمثال جبال تهامة بيضاء؛ فيجعلها الله هباءً منثوراً»، قالوا: يا رسول الله، صفهم لنا، جلهم لنا، لئلا نكون منهم ونحن لا ندري، قال: «أما إنهم منكم يصلون كما تصلون، ويأخذون من الليل كما تأخذون، إلا أنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها» رواه ابن ماجه .

عدم التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم

     كرفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد عدّ العلماء رفع الصوت عليه بعد وفاته كرفعه في حياته، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ}(الحجرات: 2)، قال القرطبي: هذا في حال حياته وبعد مماته؛ لأنه محترم حيًا وميتًا صلى الله عليه وسلم ؛ فقال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}(الحجرات: 3)؛ فعبر بغض الصوت مع أن الغض للبصر، وهذا أعلى مراتب الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك