«احفظ الله يحفظك» خطورة اللسـان
من نعمة الله علينا هذا اللسان، به نتكلم، وتخرج الأحرف، ونُفْصِح عن أنفسنا، ونعبر عن مشاعرنا. لقد أودع الله اللسان من المنافع منفعة الكلام وهي أعظمها، وجعل -سبحانه- اللسان عضواً لحميًا لا عظم فيه ولا عصب؛ لتسهل حركته؛ ولهذا لا تجد في الأعضاء من لا يكترث بكثرة الحركة سواه؛ فإن أي عضو من الأعضاء إذا حركته كما تحرك اللسان لم يطق ذلك، ولم يلبث أن يكَل ويخلد إلى السكون إلا اللسان، وأيضًا فإنه من أعدل الأعضاء وألطفها، وهو في الأعضاء بمنزلة رسول القائد ونائبه، فمزاجه من أعدل أمزجة البدن، ويحتاج إلى قبض وبسط وحركة في أقاصي الفم وجوانبه، فلو كان فيه عظام لم يتهيأ منه ذلك ولما تهيأ منه الكلام التام ولا الذوق التام.
إن أكثر الناس غافلون عن نعمة النطق باللسان، غير مدركين عظم فضل الله عليهم بها، فمن أراد الاستيقاظ من هذه الغفلة فلينظر إلى الأبكم وعِيّه، وصعوبة إبانته عما في نفسه، وكثرة حركاته، وتعدد إشاراته، وإصداره الأصوات المختلفة التي يريد من خلالها إيصال رسالته، ولينظر الغافل كذلك إلى الذين لديهم عيوب في النطق من فأفأة وتأتأة وثأثأة، وتلعثم ولجلجة وخرس وحبسة وغير ذلك؛ حتى يدرك فضل الله عليه بالقدرة على الكلام السليم فيشكره على نعمته عليه.
قولوا قولا سديدًا
قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} والوقاية من عذاب الله يكون بأداء الواجبات وترك المنهيات وتجنب المحرمات، لا تقولوا القول المحرم من الشرك والكفر والسباب والشتائم، وقولوا قولا سديدا يصلح لكم (هذا الجزاء) جزاء من اتقى الله وقال القول السديد وهو التوحيد وعدم الشرك بالله -عز وجل-، قال: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} نعم، طاعة الله ورسوله الفوز العظيم، فمن حاد عن هذا الطريق فقد خاب وخسر والعياذ بالله.
الكلمة الطيبة صدقة
الكلمة الطيبة صدقة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} الكلمة الطيبة التوحيد، توحيد الله -سبحانه وتعالى- هو الكلمة الطيبة التي كالشجرة الطيبة، تؤتي ثمارها وأصلها ثابت وفرعها في السماء، فقراءة القرآن باللسان، ودخول الإسلام باللسان، والأذكار وذكر الله باللسان، والصلاة نصف أعمالها باللسان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان، وإصلاح ذات البين باللسان، فاللسان نعمة من الله به تدخل الجنة وتنجو من النار.
نعمة قد تنقلب نقمة
وبالرغم من ذلك فإن هذه النعمة قد تكون نقمة على صاحبها حين يستخدمها في الشر وفي معصية الله -عزوجل- كالإشراك بالله {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}، هذا قول النصارى واليهود، اهتزت له الجبال، النصارى قالت عيسى ابن الله، واليهود قالوا عزير ابن الله، نعم، {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}، {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ}، هذه آيات تدل كلها على عِظَم هذا اللسان وأعمال اللسان.
أمسِك عليك لسانك
وقد بَيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أثرَ الكلمةِ وما يترتَّب عليها مِن أجْرٍ أو وِزر؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّم» صحيح البخاري، وفي الحديثِ: أنَّ موضوعَ الكلامِ هو مَا يُحدِّد أثرَه المترتِّب عليه، فقد يَخرُج المُسلِمُ من إسلامِه بسَببِ كلمةٍ، وقد يَنصُر اللهُ الإسلامَ بكلمة.
ما النَّجاةُ؟
وفي الحديثِ يقولُ عُقبةُ بنُ عامرٍ -رضِيَ اللهُ عَنه-: «قلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما النَّجاةُ؟»، أي: ما أسبابُ النَّجاةِ والفلاحِ في الدُّنيا والآخرةِ، وكيف أتَحصَّلُ عليهما وأَنْجو بنَفْسي؟ «قال»، أي: النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أمسِكْ عليك لِسانَك»، أي: كُفَّ لِسانَك واحْبِسْه واحْفَظْه عن قولِ كلِّ شرٍّ، ولا تَنطِقْ إلَّا بخيرٍ، وقد قال اللهُ -تعالى-: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18)؛ وذلك لِما للِّسانِ مِن خُطورةٍ، وقد يَخرُجُ الإنسانُ مِن الدِّينِ بكَلمةٍ وهو لا يَدْري.
آفات اللسان
وللسان آفات عديدة منها ما يكون مخرجًا من ملة الإسلام كالاستهزاء بالدين وأهله المتمسكين به، قال -تعالى-: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (التوبة: 65)، عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة -دخل حديث بعضهم في بعض- أنه «قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء؛ يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه القراء. فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فذهب عوف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه؛ فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق، قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الحجارة تنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب؛ فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (التوبة: 65)، ما يلتفت إليه وما يزيده عليه».
إطلاق النكات
كذلك من آفات اللسان التساهل في إطلاق النكات ولاسيما تلك التي تستخف بالدين وشعائره؛ فإنَّ الاستخفافَ أو الاستهزاء بالشعائر الدينية كُفرٌ محضٌ؛ لما فيه من التَّنَقُّص والطعْنِ في حكمة الشارع، ولقد ابتلي كثير من الناس في زماننا هذا، ولاسيما على مواقع التواصل الاجتماعي، بنشر الطرائف او النكات الكاذبة، او الساخرة، ومرام كل واحد من هؤلاء إضحاك الناس، واسعادهم،كما يظن بعضهم أو يتصور. ولكن الأمر بخلاف ذلك؛ إذ يحرم على العبد نشر مثل هذه الطرائف، أو التفكه بها في المجالس، أو على صفحات التواصل الاجتماعي، وغيرها، ورود النهي الصريح الصحيح المقتضي للتحريم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في هذا الأمر، فقد روى الترمذي، وأبو داوود،و أحمد، وابن ماجة، وحسنه الألباني، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له»، قال المناوي - رحمه الله - في فيض القدير: «ويل له، ويل له»، كرره إيذانا بشدة هلكته؛ وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم، وجماع كل فضيحة؛ فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب، ويجلب النسيان ويورث الرعونة، كان أقبح القبائح» أهـ، كما أن في هذه المنشورات معصية لله -جل وعلا-، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا بين؛ لما فيها من الكذب، الذي نهى الله ورسوله عنه، قال الله -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} التوبة:119، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما في الصحيحين: «إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ!؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ»، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى: (المتحدث بأحاديث مفتعلة ليضحك الناس أو لغرض آخر عاص لله ورسوله)أهـ.
الغيبة
ومن أخطر آفات اللسان التي تذهب الحسنات «الغيبة» وهي ذكر العيب بظهر الغيب، ذكرك أخاك بما يكره سواء أكان فيه ما تقول أم لم يكن، هكذا بينها رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، يقول الله -عز وجل- في محكم تنزيله: «ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه»، الغيبة ذات أسماء ثلاثة، كلها في كتاب الله -عز وجل- الغيبة، والإفك، والبهتان. فإذا كان في أخيك ما تقول فهي الغيبة، وإذا قلت فيه ما بلغك عنه فهو الإفك، وإذا قلت فيه ما ليس فيه فهو البهتان، هكذا بين أهل العلم -رحمهم الله- الغيبة وتشمل كل ما يفهم منه مقصود الذم سواء أكان بكلام أم بغمزة أم إشارة أم كتابة، وإن القلم لأحد اللسانين. والغيبة تكون في انتقاص الرجل في دينه وخُلُقه وخَلْقه وفي حسبه ونسبه، ومن عاب صنعه فإنما عاب صانعها.. يقول الحسن -رحمه الله-: «والله للغيبة أسرع في دين الرجل من الأكلة في الجسد».
شهادة الزور
ومن آفات اللسان شهادة الزور، قال -سبحانه- مثنياً على صنف من عباده: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}، وقال -سبحانه وتعالى-: {لَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وقد ترجم البخاري -رحمه الله- في صحيحه بابا قال فيه: (باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله، ما الكبائر ؟ قال: «الإشراك بالله، قال ثم ماذا ؟ قال: عقوق الوالدين، قال ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كاذب»، واليمين الغموس سميت بذلك؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار ولا كفارة فيها.
لاتوجد تعليقات