رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: رائد الحزيمي 13 يناير، 2020 0 تعليق

«احفظ الله يحفظك» خطـــورة الدَّيــْــــن ومفاسده


جاء في الحديث الصحيح براوية النسائي والطبراني وفي صحيح الترغيب والترهيب، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعداً حيث توضع الجنائز - في المقبرة - فرفع رأسه قِبَل السماء ثم خفض بصره فوضع يده على جبهته فقال: سبحان الله، ما أُنْزِل من التشديد، قال الراوي ففرقنا - أي خفنا - حتى إذا كان الغد، سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: ما التشديد الذي نزل؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «في الدَّيْن» والذي نفسي بيده لو قُتِلَ رجل في سبيل الله ثم عاش ثم قتل ثم عاش ثم قتل وعليه دَيْن، ما دخل الجنة حتى يُقضى دينه. 
 
     من هنا فإن المؤمن الحصيف المشفق على نفسه يسعى جاهدًا على أن يلقى ربه نقي القلب، طاهر الباطن، بريء الذمة، غير متورط بحق ولا مظلمة ولا مال، ولا كسب خبيثا؛ لأنه يوقن حق اليقين أن الحساب عظيم، والموقف جليل بين يدي الجبار الذي لا يظلم عنده أحد، ولا يخفى عليه ذرة، ولا يعجزه حساب.
 
زجر ووعيد مخيف
     وقد ورد في السنة الصحيحة زجر أكيد ووعيد مخيف لمن تساهل في حقوق العباد، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من مال أو عرض فليتحللها من صاحبه من قبل أن يؤخذ منه حين لا يكون دينار ولا درهم؛ فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه». رواه البخاري. 
 
ما يشغل ذمة المؤمن
     فمن أعظم ما يشغل ذمة المؤمن ويثقل كاهله ويورده المهالك يوم القيامة الدَّين، بأن يقترض من أخيه مالا وتبقى ذمته مشغولة به؛ فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الدين لا يُغفر مهما بلغ صلاح المؤمن بل وجاد بنفسه في سبيل الله، خلافا لسائر الذنوب والكبائر التي تطهرها الشهادة كما في صحيح مسلم: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في أصحابه فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال؛ فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله: نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف قلت. قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله: نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الديْن فإن جبريل -عليه السلام- قال لي ذلك». رواه مسلم. وهذا يدل على أن التورط بالديْن من أعظم الأخطار التي يبتلى بها المؤمن في الدنيا.
 
صلوا على صاحبكم
     وورد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتورع ويمتنع عن الصلاة على الرجل الذي عليه دين حتى يقضى عنه دينه كما في سنن الترمذي: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى برجل ليصلي عليه، فقال: صلوا على صاحبكم فإن عليه ديناً». فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كانت صلاته شفاعة عظيمة للمؤمنين، ومع ذلك امتنع عن الصلاة عليه؛ لأن حق المخلوق لا يكفره الاستغفار. ثم لما وجد النبي يسارا وكثرة في بيت المال صار يقضي الديون عن المؤمنين، وهذا يدل على أنه يتأكد على الدولة الغنية السعي والاجتهاد في قضاء ديون الأموات الذين لم يتركوا مالا يكفي لسداد ديونهم.
 
خطورة الديْن
     ومما يدل على خطورة الدين ما ورد: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستعيذ كثيرا من الدين فقال له رجل يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الرجل إذا غرم حدّث فكذب ووعد فأخلف». متفق عليه. وهذا يدل على أن ركوب الدين يورد المهالك، ويحمل المدين غالبا على الوقوع في الكبائر. وكان - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يدعو: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وقهر الرجال». رواه البخاري.
 
عذاب القبر
     ومما يدل على خطورة الدين أن صاحبه قد يتعرض لعذاب القبر، كما في حديث جابر بن عبد الله قال: «توفي رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه ثم أتينا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه فقلنا: تصلي عليه فخطا خطوة ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران؛ فانصرف فتحملهما أبو قتادة فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران عليّ. فقال رسول الله: قد أوفى الله حقَّ الغريم وبرئ منهما الميت قال: نعم. فصلى عليه ثم قال بعد ذلك بيومين: ما فعل الديناران. قلت: إنما مات أمس. قال: فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتها، فقال رسول الله: الآن بردت جلدته». رواه أحمد. 
 
حقوق العباد
     وإنما وردت الأخبار في التشديد في الدين؛ لأن ذنوب حقوق العباد مبنية على المشاحة والمطالبة في الآخرة، ولا يكفي في تطهيرها مجرد التوبة، خلافا للذنوب التي بين العبد وربه فإنها مهما عظمت مبنية على المسامحة والعفو والغفران إذا وردت عليها نور التوبة أزالت ظلمتها، ونار الخشية أحرقتها، ولم تبق لها أثرا كما صحت الأخبار بذلك، من هنا فلا ينبغي للإنسان أن يتهاون في أمر الديون، وأن يستدين ولا ينظر إلى عاقبة الأمر.
 
حال السلف
     وقد جاء عن كثير من السلف التحذير من الدين أيضا: فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: «َإِيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حَرْبٌ» رواه مالك في الموطأ (2/770)، وفي (مصنف عبد الرزاق) (3/57): قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: «يا حمران، اتق الله ولا تمت وعليك دين، فيؤخذ من حسناتك، لا دينار ثَمَّ ولا درهم».
 
مفاسد الديْن
     لم يأت كل هذا التشديد في أمر الدين إلا لما فيه من المفاسد على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع، أما على مستوى الفرد فيقول القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) (3/417): «قال علماؤنا: وإنما كان شينا ومذلة؛ لما فيه من شغل القلب والبال، والهم اللازم في قضائه، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منته بالتأخير إلى حين أوانه، وربما يعد من نفسه القضاء فيخلف، أو يحدث الغريم بسببه فيكذب، أو يحلف له فيحنث، إلى غير ذلك، وأيضا فربما قد مات ولم يقض الدين فيُرتَهن به، كما قال -عليه السلام-: «نسمة المؤمن مرتهنة في قبره بدينه حتى يُقضى عنه» رواه الترمذي 1078 وكل هذه الأسباب مشائن في الدين تذهب جماله وتنقص كماله» انتهى.
 
شروط الدين
وانطلاقا مما سبق اشترط العلماء لجواز الدين شروطا ثلاثة:
- أن يكون المستدين عازما على الوفاء.
- أن يعلم أو يغلب على ظنه قدرته على الوفاء.
- أن يكون في أمر مشروع.
 
     يقول ابن عبد البر في (التمهيد) (23/238): «والدين الذي يُحبَسُ به صاحبُه عن الجنة، والله أعلم، هو الذي قد تَرك له وفاءً ولم يوص به، أو قدر على الأداء فلم يؤد، أو ادَّانه في غير حق، أو في سرف ومات ولم يؤده، وأما من ادَّان في حق واجب لفاقةٍ وعسرةٍ، ومات ولم يترك وفاء، فإن الله لا يحبسه به عن الجنة إن شاء الله» انتهى.
 
دعاء قضاء الدين
     وفي السنة النبوية مجموعة من الأدعية التي جاءت بخصوص الاستعانة بالله على قضاء الدين، ومنها: عَنْ سُهَيْلٍ قَالَ: كَانَ أَبُو صَالِحٍ يَأْمُرُنَا إِذَا أَرَادَ أَحَدُنَا أَنْ يَنَامَ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنْ الْفَقْرِ»، وَكَانَ يَرْوِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. رواه مسلم (2713)، وعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأَعِنِّي، قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ؟! قَالَ: قُلْ: «اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ» رواه الترمذي (2563) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وحسنه الألباني في صحيح الترمذي.
 
هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ
     وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ، فَقَالَ يَا أَبَا أُمَامَةَ! مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟! قَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلَامًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَل-َّ هَمَّكَ، وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: «قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ»، قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَمِّي، وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي، رواه أبو داود (1555)، وفيه غسان بن عوف قال الذهبي: غير حجة، لذلك ضعف الشيخ الألباني الحديث في ضعيف أبي داود. ولكن الدعاء المذكور، وهو قوله: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن.. ثابت في الصحيحين من غير قصة أبي أمامة.
 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك