احـذروا الغوغـاء!
هذه نصيحة يقدِّمها إسحق بن راهويه، فيقول: احذروا الغوغاء، فإنهم قتلة الأنبياء. قال محمد بن القاسم: دخلتُ عليه يعني إسحقَ ـ فقلت: يا أبا يعقوب! حدَّثْتَ هذه الأحاديث في الترجيع فما لك لا تأمر مؤذِّنك بالترجيع؟! قال: يا مُغفَّل! ألم تسمع ما قلتُ في الغوغاء، إنما أخافُ الغوغاءَ!
ابن راهويه هو الإمام الكبير، سيِّد الحفاظ: إسحق بن إبراهيم الحنظلي (ت: 238 هـ)، قال الإمام أحمد رحمه الله: إسحق عندنا إمام، لا أعرف لإسحق في الدنيا نظيرًا، وقال إمام الأئمة محمد بن إسحق بن خزيمة (ت: 311 هـ): واللهِ لو كان إسحق في التابعين لأقرُّوا له بحفظه وعلمه وفقهه.
عندما وقفتُ على هذه الكلمة، قلتُ: لابدَّ أن يكون لها أصل سلفيٌّ، فمثل هذا الإمام الجليل القدر: إذا تكلَّم فإنّما يتكلَّم بهدىً ونورٍ من الكتاب والسنة، والآثار السلفية، فنظرتُ: فإذا سلفه في ذلك الصحابيُّ الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
قال ابن عباس رضي الله عنه: كنتُ أُقرئ رجالاً من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنىً -وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجةٍ حجًّها-؛ إذ رجع إليَّ عبد الرحمن فقال: لو رأيتَ رجلاً أتى أمير المؤمنين اليومَ، فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلانٍ يقول: لو قد مات عمرُ لقد بايعتُ فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكرٍ إلا فلتةً فتمَّتْ! فغضبَ عمرُ، ثم قال: إنِّي - إن شاء الله - لقائم العشيةَ في الناس، فمُحَذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم. قال عبد الرحمن: فقلتُ يا أمير المؤمنين لا تفعلْ! فإنَّ الموسم يجمع رَعَاعَ النَّاس وغَوْغاءَهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قُربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالةً يُطيِّرها عنك كل مُطَيِّرٍ، وأن لا يَعُوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة، والسنة، فتخلص بأهل الفقه، وأشراف الناس، فتقول ما قلتَ متمكِّنًا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها. فقال عمرُ: أما واللهِ - إن شاء الله - لأقومنَّ بذلك أول مقامٍ أقومه بالمدينة.
فهذه سنةٌ سلفيةٌ ماضيةٌ: الحذر من الغوغاء واتقاء شرهم.
والغوغاء: هو الجراد حين يخفُّ للطيران، أو بعد ما ينبتُ جناحه، ويطلق على الكثير المختلط من الناس، وعلى السفلة من الناس، والمتسرعين إلى الشَّر، والعامة تستعمل الغوغاء للجلبة واللغظ، وفي تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}(القارعة: 4)، قال الفرَّاء كغوغاء الجراد يركب بعضها بعضاً، كذلك الناس يجول بعضهم في بعضٍ إذا بعثوا كذا قال الفرَّاء رحمه الله في تفسير الفراش، ولم يوافقه أبو عُبيد بل قال: الفراش طير، لا ذبابٌ ولا بعوض، والمبثوث المتفرق، وحمل الفراش على حقيقته أولى.
وكأني بالفرَّاء قد التفت إلى المعنى، ففسر هذه الآية بقوله تعالى: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ﴿7﴾مُّهطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ يَقُولُ ٱلكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا يَومٌ عَسِرٌ}(القمر: 7 - 8)
قال ابن حجر رحمه الله: «وفي تشبيه النَّاس يوم البعث بالفراش مناسبات كثيرة بليغة، كالطيش، والانتشار، والكثرة، والضعف، والذلة، والمجيء بغير رجوع، والقصد إلى الداعي، والإسراع، وركوب بعضهم بعضاً، والتطاير إلى النَّار.
فالغوغائيُّ: إنسان متجرّد من الثوابت، يتحرك في اتجاه المجهول بقوةٍ شريرةٍ، تغذِّيها نفسٌ ثائرة على ذاتها وعلى من حولها، بعاطفة غبية، وجهلٍ مركّب، فتسارع إلى أسباب الفتنة والفساد والشر.
وقد ذكر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بعض أوصافهم، فقال: «إنهم يغلبون على قربك حين تقوم في الناس»، فهؤلاء إذا كانوا في مجمعٍ من الناس أو مجلس، لم يعرفوا للكبير حقَّه، ولا للعالم فضله، بل يتقدمون في المجلس، ويتخطون رقاب الأفاضل، فيغلبون غيرهم في القرب من المتكلم الإمام أو العالم، حتى إذا ما سمعوا كلامه سارعوا في نشره بين الناس، على غير وجهه ومراد صاحبه، زاعمين أنهم على علم كامل به، وبما يتعلق به، وبأبعاده!
قال ابن حجر رحمه الله: يُطَيِّرها -بضم أوله- من أطار الشيء إذا أطلقه. وللسرخسي: يَطَّيرها - بفتح أوله - أي: يحملونها على غير وجهها. ومثله لابن وهب، وقال: يطيرنَّها أولئك، ولا يعونَها، أيْ: لا يعرفون المراد بها، وثالثة الأثافي أنهم «لا يضعونها على مواضعها»، فهم يسيئون الأدب، والفهم، والتصرف.
قال ابن حجر رحمه الله - في بيان فوائد هذا الأثر-: فيه التنبيه على أن العلم لا يودع عند غير أهله، ولا يحدَّث به إلا من يَعْقله، ولا يحدَّثُ القليل الفهم بما لا يحتمله.
قلتُ: ولا شك أن أجلَّ ذلك ما يَتعلَّق بالمصالح العامة للأُمَّة، مثل: الملك والسياسة، ونحوها، فدلّ هذا الأثر أنه لا يُتكلَّم فيها إلا عند الخواص من أهل العلم والفقه وأشراف الناس، فرضي الله تعالى عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، عمل بمقتضى الحكمة والعقل، فأخذ بقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. فكيف لو رأيا أهل زماننا من المنتسبين إلى العلم والدعوة، بله غيرهم من السياسيين والحركيين والحزبيين، يتكلمون في الأمور العظيمة، والقضايا المصيرية أمام الجهلة والعوام وسفلة الناس، وصغار السنِّ، بل ويطلبون منهم المشاركة في التفكير والرأي والحكم! جاهلين أو متجاهلين خطورة ذلك، وقد رأوا مراتٍ - ويرون الآن في بعض البلاد - الثمار الخبيثة لمنهجهم هذا: تشرذمًا وفتنًا وتكفيرًا، وجرأةً على الدماء والأموال والأعراض.
وإنما أُوتي هؤلاء المتصدِّرون لتوجيه العوام، ومن يَلْحقون بهم من صغار السن، وضحيلي الثقافة والعلم: من جهلهم بمنهج أهل السنة والجماعة ـ أهل الحديث والأثرـ، وما هم عليه من البعد عن إثارة الشغب، وتهييج العواطف العواصف، والتزام جانب الإنكارِ والنصيحةِ السرية للحكّام، «فليس من منهج السلف: التشهيرُ بعيوب الولاة، وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى، وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضرٌّ ولا ينفع. ولكن الطريقة المتَّبعة عند السلف: النصيحةُ فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتَّصلون به حتى يُوجَّه إلى الخير وقد جاء الحديث في هذا صريحاً صحيحاً، لا يخالفه - بعدَ العلم به - إلا صاحبُ بدعةٍ أو هوىً، فعن عِياض بن غُنْمٍ رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أراد أن ينصح لسلطانٍ بأمرٍ: فلا يُبْدِ له علانيةً، ولكن ليأخُذْ بيده، فإنْ قبل منه: فذاك، وإلا: كان قد أدَّى الذي عليه».
ومن تأمل التاريخ وجد أن معظم الفتن الكبيرة التي ابتليت بها الأمة إنما اشتد أمرها، وعظم شرها، عندما تناولها الغوغاء، عند ذلك عجز العلماء والفضلاء عن ردِّها، ودفع خطرها، وهل قُتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه إلا بسبب ما أثاره الغوغاء؟!
ثم إن الغوغاء كلَّما جاءهم رجلٌ أجدل من رجل اتبعوه، وتركوا مقتضى العلم والإيمان والعقل، فهؤلاء بنو إسرائيل عندما جاءهم السامريُّ بالعجل عبدوه، ونبيُّ الله هارون عليه الصلاة والسلام بين ظهرانيهم، فما التفتوا إليه، ولا عرفوا له قدره، بل كما أخبر هو عن نفسه: { إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} (الأعراف: 150)، قال الإمام القرطبي رحمه الله: دلَّت الآية على أن لمن خشي القتل على نفسه عند تغيير المنكر أن يسكت.
قلتُ: فالعالم الرباني والداعية الصادق قد يبتلى بمثل هؤلاء الغوغاء فيضطرُّ للسكوت عن بعض الحق، وللمداراة والتقية أحيانًا دفعًا لشرٍّ محقَّقٍ أو مفسدةٍ كُبرى، لكنه رغم ذلك يثبت على إيمانه وعقيدته، ولا يغيِّر جلده ولا لونه، ولا يتنازل عن شيء من دينه لإرضاء العامة والدهماء، فلا يبتغي رضى الناس بسخط الله تعالى. أما الإسلامي الحركي الذي لا يلوي على عقيدة ثابتة راسخة ولا على منهج قويم؛ فدأبُه أبدًا تغيير وجهه، والتنازل عن عقيدته، والتلاعب بدينه؛ إرضاءً للغوغاء، وكسبًا لأصواتهم، وتجميعًا لغثائيتهم. فليتذكَّر هذا الصنف المتهوك أمر ربِّنا عزَّ وجلَّ لنبيِّه الكريم وهو أمرٌ لكلِّ من اتَّبعه وسار على نهجه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } (المائدة: 49)، فتضمنت هذه الآية الكريمة الإشارة إلى الأصول الجامعة لموقف الداعية من المخالفين والغوغاء، الأصل الأول: أن يلتزم ما أنزل الله تعالى في حكمه بينهم، سواءٌ كان حكمًا ملزمًا لتوفر أسباب الإلزام به، أم كان حكمًا غير ملزم يراد به إظهار المعتقد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحجة وإعلان الموقف.
والأصل الثاني: عدم اتباع أهوائهم، وهو نهيٌ عامٌّ شامل لكل صورها ومراتبها. وتذكر هذا النهي والتأكيد عليه مهمٌ للمسلم الذي لا ينقطع عنه ضغط أهواء أهل الباطل.
والثالث: الحذرُ من الافتتان بهم بالتنازل عن بعض ما أنزل الله من أمر العقيدة أو الشريعة، وقد وقع في هذا المحذور كل من ميَّع أمر الدين وضيَّع بعضه من أجل استرضاء من هو أسوأ حالاً منه في البعد عن منهاج الله.
والرابع: عدم الاكتراث بتوليهم وإعراضهم عن الدعوة؛ فإن الالتفات إلى ذلك يحمل على السعي لاسترضائهم، وهو ذريعة لاتباع أهوائهم والافتتان بها عن بعض الحقِّ.
والخامس: ملاحظة جانب القدر الكوني فيما أراده الله تعالى عقوبة لهم بذنوبهم، فالتكلُّف في دعوتهم بالطرق والوسائل التي لم يأذن الله تعالى بها لا يجدي نفعًا.
والسادسُ: أن الخروج عن الحق والإعراض عنه هو حال الأغلب والأكثر من الناس. فمن فقه هذه الأصول وثبت عليها لم تزحزحه عن الحقِّ والهدى أهواء الغوغاء وفتنهم. والله الهادي والموفِّق.
لاتوجد تعليقات